تقول
المأثورات ( رب ضارة نافعة) بمعنى أن الإنسان حين يكره أمرًا ويتألم من نتائجه قد
يجعل الله فيه خيراً كثيراً، وعلى سبيل المثال حين اجتاح فيروس كورونا الوبائي
العالم تضررت مصر وخسرت إيرادات السياحة وتوقفت عجلة الإنتاج في غالبية الأنشطة
الاقتصادية والفاعليات الحيوية ومع ذلك كنا من الدول القلائل التى حققت نمو
اقتصادي ايجابى بسبب زيادة إيرادات قناة السويس وارتفاع قيمة الصادرات المصرية
خاصةً من الخضروات والفاكهة بفضل مشروعات الصوب الزراعية.
وحين
اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية تحدث وزير البترول المصري طارق الملا أن بإمكان
مصر أن تضخ كميات من الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا من حقول شرق المتوسط للتعويض
عن نقص الغاز الطبيعي الروسى، وبالفعل تمت التفاهمات والتصالحات مع قطر وتركيا
للتنسيق في ملف الغاز الطبيعي، كما توقع المراقبون أن تواصل إيرادات قناة السويس
الارتفاع بعد أن اتجهت أنظار العالم إلى المنطقة حيث النفط الخليجي والعراقى
والغاز الطبيعي من قطر ومصر وقبرص واليونان ولبنان حيث منظمة أوبك للغاز الطبيعي
والتحالفات التي أنشأتها مصر مع هذه الدول.
ولكن يبقى
السؤال هو هل تتفوق الإيجابيات على السلبيات، بمعنى هل تستطيع صادرات الغاز
الطبيعي وايرادات قناة السويس أن تسد الفجوة الغذائية وتوفر ما نحتاجه من الأقماح
والأعلاف وغيرها من السلع المستوردة، أم أن عجز الموازنة الناتج عن الفارق بين
الإيرادات والمصروفات سيظل شبح يؤرق القائمون على الاقتصاد المصري.
وعلى ذكر
القائمين على الاقتصاد وخططهم المستقبلية نعلم أن لدينا خطة أو بالأدق حلم بأن تصل
عوائد الصادرات المصرية إلى ١٠٠ مليار دولار سنوياً، فهل أصبح هذا الحلم قابل
للتحقيق أم أنه تلاشى بسبب الحرب، بل والسؤال الأصعب هو إلى أى مدى يمكن الاستفادة
من هذه الأحداث العالمية لتحقيق مكاسب اقتصادية مصرية لتعويض العالم عما فقده
وتوفير احتياجات ومتطلبات الدول التى تضررت من جراء الحرب، على غرار الاستفادة من
العقوبات المفروضة على روسيا وخروجها من النظام المصرفي العالمى مما جعلها توقع مع
مصر اتفاقية للتبادل التجاري بالجنيه المصري مقابل الروبيل الروسي والأخير يساوى
جنيهان فقط، وهو ما يخفف عن كاهل الميزان التجاري المصري عبأ الاستيراد بالدولار
بسعره المرتفع وقفزاته المتتالية، خاصةً في ظل اعتماد مصر على القمح الروسي وكذلك
الذرة الصفراء والصويا الأوكرانية لإنتاج العلف اللازم للدواجن.
علماً بأن
فكرة الاستفادة من الأزمات لتحقيق مكاسب ليست بدعة بدليل أن دولة مثل إيران تستغل
الأزمة الحالية لتصدير الغاز الطبيعي عبر دول أخرى أبرزها تركيا، لتخترق الحصار
والعقوبات المفروضة عليها، وفي ظل الأزمة الحالية أحدًا لن يدقق في مصدر الغاز
الطبيعي.
وعلى خلفية
ذلك تتبلور التساؤلات حول مدى إمكانية تحقيق حلم الوصول بالصادرات المصرية إلى ١٠٠
مليار دولار، ليبقى السؤال الأهم هو كيف يتحقق هذا الحلم.
مفاجأة: الاقتصاد المصرى تحسن بالفعل فى بدايات الحرب
- زيادة غير مسبوقة فى الصادرات بنسبة
53.1% وانتعاش إيرادات السياحة لتبلغ ضعف العام السابق
- الصادرات الغير بترولية إرتفعت بنسبة
29.4% وبلغت حوالى 26 مليار دولار
يقسم
الخبراء العام الماضى إلى قسمين الأول أفضل من الثانى من حيث الأرقام التى تعكس
جودة الآداء الاقتصادى بشكل عام، حيث شهد عام 2022 العديد من الأحداث الجوهرية،
التى ألقت بظلالها على الاقتصاد المصرى، وفى هذا السياق إتسم النصف الأول بالآداء
الإيجابى على خلفية تنامى الصادرات المصرية إبان أزمة كورونا وزيادة إيرادات قناة
السويس، ثم عودة السياحة إلى الانتعاش مع التعافى من الجائحة وإعادة فتح الشواطئ
والمزارات السياحية والفنادق، أما فى النصف الثانى من العام فقد تصاعدت تداعيات
الحرب الروسية الأوكرانية التى تسببت فى متغيرات اقتصادية باتت أكثر عنفًا ووضوحاً
مع نهايات 2022 وبدايات العام الجارى حتى كتابة هذه السطور.
وحول
إمكانية تحويل المحنة إلى منحة صدرت مؤخرًا دراسة بعنوان " زيادة الصادرات:
أسواق جديدة للصادرات المصرية فى عام الأزمة"، أعدها الخبير الاقتصادى أحمد
بيومى بالمركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية، تناول خلالها الأحداث
الجيوسياسية العالمية متمثلة فى الحرب الروسية وكيف ألقت بظلالها على الآداء
المالى للدول.
وفيما
يتعلق بمصر وكيف يتأثر التقييم الاقتصادى بالأحداث العالمية، أوضحت الدراسة أن
تعاملات مصر مع العالم الخارجي شهدت تحسنًا في عجز الحساب الجاري، حيث انخفض العجز
بنسبة 10.2٪، مسجلًا 16.6 مليار دولار أمريكي في عام 2021/2022 (مقارنة بـ18.4
مليار دولار أمريكي في العام المالي السابق).
وأرجع الخبير الاقتصادى ذلك بشكل أساسي إلى
الزيادة غير المسبوقة في الصادرات السلعية (النفطية وغير النفطية) التي ارتفعت
بنسبة 53.1%، إلى جانب الانتعاش الملحوظ في إيرادات السياحة التي بلغت ضعف العام
الماضي تقريبًا، والارتفاع في عوائد قناة السويس، وقد جاءت تلك التطورات في ظل وضع
دولي متشابك يتسم بالتراجع الاقتصادي جراء ما خلفته الحرب الروسية الأوكرانية من
ارتفاع في أسعار الطاقة والسلع، وهو ما دفع البنوك المركزية عالميًا إلى تبني
سياسات نقدية انكماشية لاحتواء موجات التضخم المترتبة على تلك الارتفاعات.
تلك
الأرقام توضح أن الاقتصاد المصرى استطاع أن يصمد، بل ويواصل النمو والتعافى فى ظل
الأزمة، بالرغم من إن العالم كان ومازال يترنح من جراء تداعيات كورونا، لتبرز
علامات استفهام من نوعية لماذا لم نستطع مواصلة الصعود بقوة أو على الأقل الثبات
فى مواجهة هذه الأحداث والتداعيات، وكيف يمكن أن نستفيد من تجربتنا السابقة
القريبة فى التعامل مع ذات الأزمة التى خلفتها نفس الحرب.
وللإجابة
على هذه التساؤلات طرحت الدراسة بعض الأرقام وعلقت عليها بشكل تحليلى، موضحة أن
تقرير أداء الميزان التجاري المصري لعام 2021/2022 أشار إلى تحقيق صافي سالب 43.4
مليار دولار أمريكي، وهو ما يعني أن مصر استوردت سلعًا بمبلغ يفوق حجم تصديرها
بذلك المبلغ، حيث بلغ إجمالي صادرات مصر من السلع البترولية وغير البترولية مبلغ
43.9 مليار دولار (17.9 مليار دولار صادرات بترولية، و25.9 مليار دولار صادرات غير
بترولية)، ونظرت الدراسة إلى ما يمكن وصفه نصف الكوب الممتلأ أو الجانب الإيجابى
لتلك الأرقام، خاصةً فيما يتعلق بالصادرات غير البترولية التي ارتفعت بنسبة 29.4%
تقريبًا (25.9 مليار دولار لعام 2021/2022 مقابل 20.1 مليار دولار لعام
2020/2021).
استوردنا خامات وصدرنا منتجات
تامة الصنع
السلع المصرية قادرة على الإسغناء
عن " المستوردة " والنفاذ إلى الأسواق العالمية
على الجانب
الآخر – الذى يمكن إعتباره الجانب السلبى- المتعلق بواردات مصر غير البترولية فقد
ارتفعت هي الأخرى بنسبة 18.7 % (73.7 مليار دولار لعام 2021/2022 مقابل 62.1 مليار
دولار لعام 2020/2021)، وتأتي تلك الارتفاعات في قيم الواردات مدفوعة بارتفاع قيم
الواردات الخاصة بمدخلات الإنتاج مثل بوليمرات البروبيلين والحديد الزهر والمركبات
العضوية وغير العضوية، بالإضافة إلى ارتفاع في أسعار المنتجات الزراعية وخاصة فول
الصويا والذرة والقمح، والارتفاع في أسعار الأدوية والمستحضرات الصيدلانية
واللقاحات.
وبنظرته
المتفائلة، أشار " بيومى" إلى حقيقة إيجابية تغافل عنها غالبية
الباحثين، تتعلق بأنه رغم تلك الارتفاعات تظل نسبة الارتفاع في الصادرات غير
البترولية أفضل من نسبة الارتفاع في الواردات غير البترولية، مشددًا على أن تلك
الزيادة في الصادرات غير البترولية تمثلت في زيادة في تصدير السلع التامة الصنع،
مثل الفوسفات والأسمدة المعدنية، وأجهزة الإرسال والاستقبال للراديو والتلفزيون،
والملابس الجاهزة، والأدوية، والأجهزة الكهربائية المنزلية، والسلع نصف المصنعة،
خاصة المركبات العضوية وغير العضوية وبوليمرات الإيثيلين – البروبيلين، وهو مؤشر
إيجابي على نجاح منظومة التصنيع المصرى وتطويره حيث نستورد خامات ونصدر منتجات
تامة الصنع، وكذلك قدرة السلع المصرية على إحلال جزء من السلع المستوردة، وقدرتها
على النفاذ إلى الأسواق العالمية.
شهدت إرتفاع بنسبة 108%
زيادة الصادرات البترولية وفتح أسواق جديدة فى أوروبا وتركيا
فى كل بيت
مصرى بات هذه السؤال يتكرر شهرياً مع حضور محصل فاتورة الغاز المنزلى، ومع كل
ارتفاع فى قيمتها يتساءل الجميع " فين الغاز الطبيعى اللى طلعوه من حقل ظهر
وغيره"، وكيف ترتفع أسعار الغاز الطبيعى فى بلد انضمت مؤخرًا لقائمة كبار
مصدريه عالميًا.
وأجابت
الورقة البحثية عن هذا السؤال بالأرقام موضحة أنه فيما يتعلق بالسلع البترولية،
فقد شهدت صادرات مصر البترولية ارتفاعًا بنسبة 108 % تقريبًا (17.9 مليار دولار
لعام 2021/2022 مقابل 8.6 مليارات دولار لعام 2020/2022)، بينما ارتفعت واردات مصر
البترولية بنسبة 57.4 % تقريبًا (13.5 مليار دولار لعام 2021/2022 مقابل 8.6
مليارات دولار لعام 2020/2021).
وتعود تلك الزيادة في صادرات مصر البترولية إلى
الارتفاعات في أسعار الغاز الكبيرة بعد أن نجحت الحكومة المصرية في الكشف عن حقول
الغاز الطبيعى الذى تدفق بكميات كبيرة بعد ترسيم الحدود البحرية، ما أدى إلى تعزيز
حصة مصر من سوق صادرات الغاز الدولي خلال أزمة الحرب الروسية الأوكرانية، الأمر
الذي ساهم في زيادة الكميات التي تم تصديرها من خلال فتح أسواق جديدة في دول
أوروبا، وأبرزها إيطاليا وفرنسا وإسبانيا وكرواتيا واليونان، وكذلك تركيا خاصًة مع
بدأ تحسن العلاقات السياسية بين القاهرة وأنقرة، وبالطبع ساهمت الزيادة السعرية في
جزء من ذلك الارتفاع.
رغم قرارات الفيدرالى
الأمريكى برفع سعر الفائدة وقفزات الدولار المتتالية
تحسن الاستثمار الأجنبى المباشر بنسبة 71.4% ليصل إلى 8.9
مليارات دولار
كلما إتخذ
البنك الفيدرالى الأمريكى قرارًا برفع سعر الفائدة على الدولار يتزامن ذلك مع
قفزات جنونية فى قيمته مقابل إنهيار الجنيه المصرى أمامه، ويجد التجار أو بالأدق
بعض التجار الجشعين فى ذلك فرصة أو ذريعة لرفع الأسعار بدون مبرر بل وإخفاء بعض
السلع فى المخازن لتعطيش السوق ومضاعفة قيمتها، ليجد المواطن العادى نفسه محاصًرا
بموجات الغلاء المتتالية.
أما عن
إنعكاسات ذلك على الآداء الإقتصادى والميزان المالى والخدمى، فقد أشارت الدراسة
إلى تراجع صافي التدفقات الوافدة في السنة المالية 2021/2022 إلى 11.8 مليار دولار
أمريكي (من 23.4 مليار دولار أمريكي) نتيجة للعديد من الأسباب التي في معظمها
دولية تتعلق بالمخاطر الجيوسياسية المتعلقة بالاستثمار في الأسواق الناشئة، وانتهاج
الولايات المتحدة الأمريكية سياسات نقدية تشددية لاحتواء معدلات التضخم المرتفعة،
التي ترتب عليها خروج مكثف لاستثمارات الأجانب بحافظة الاستثمارات المصرية بحوالي
21.0 مليار دولار أمريكي.
لكن في المقابل تحسن الاستثمار الأجنبي المباشر
في مصر بنسبة 71.4 % ليصل إلى 8.9 مليارات دولار أمريكي للعام 2021/2022 مقابل 5.2
مليارات دولار للعام السابق له، والأمر الجيد في تلك الاستثمارات هو أن قيمة
الاستثمارات في الشركات القائمة بلغ 3.4 مليارات دولار أمريكي، وتم تأسيس شركات
جديدة بحوالي 238.2 مليون دولار أمريكي، وبلغ صافي التدفقات الداخلة للمشتريات
العقارية لغير المقيمين بالبلاد إلى 353.9 مليون دولار.
واستخلصت الدراسة من ذلك إن العام المالي
2021/2022 الذي شهد العديد من الأحداث الجيوسياسية العالمية كان له أثر إيجابي على
استكشاف قيمة المنتجات المصرية بشكل أوسع في السوق الأوروبية والتي انعكست بالأساس
على زيادة قيمة الصادرات المصرية غير البترولية والتي تبذل الدولة جهودًا حثيثة
للوصول بها إلى مستهدف 100 مليار دولار سنويًا، أما عن الزيادة في صادرات مصر
البترولية وخاصة من الغاز فقد شهدت تطورًا كبيرًا من خلال دخول مصر إلى أسواق جديدة،
وهو ما يسمح بتنويع وجهة المنتجات البترولية المصرية إلى السوق الأوروبية، فى
إشارة إلى أن هذا الحلم ليس مستحيل المنال بل ولا يمكن إعتبار تحقيقه بات أصعب فى
ظل الظروف العالمية المتوترة بل على العكس يمكن الاستفادة منها.