
غالبية المشاركين الذين توافدوا إلى الشوارع كان خروجهم عفويا تلقائيا ومشحونا بالرغبة النبيلة فى تغيير الأوضاع المتردية
الغضب الشعبى كان متوقعا ومشروعا أما الدور الخارجى فهو هندسة الأحداث لتحقيق المرامى المخطط لها
لولا المناخ الذى أتيح للإخوان فى ظل الأنظمة السابقة ما بلغوا هذه الصورة من التوحش والتغول والتوغل داخل المجتمع
فى سنوات حكم مبارك تمكنوا من الحشد وامتلاك الثروات وبناء إمبراطوريات اقتصادية مكنتهم من اختطاف النقابات المهنية والتوسع فى إقامة جسور التواصل فى المناطق الفقيرة
رغم مرور ثمانى سنوات على ما جرى فى 25 يناير 2011، إلا أن الجدل مازال يلاحق هذا الحدث الذى أثر فى شكل الدولة المصرية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، فقد كانت تداعياته كافية بالحكم عليه بعيدا عن الانحياز أو الرفض، نعم كانت هناك رغبة شعبية للتغيير، لكن صاحبها عنف وإرهاب، هدفه صناعة الفوضى لإسقاط مؤسسات الدولة. فلو لم تكن هناك دوافع حقيقية، وأسباب موضوعية للغضب ضد نظام مبارك، ما خرج المصريون بالملايين إلى الشوارع مطالبين برحيل حكم الشلة، أيضًا لولا تلك الملايين، التى منحت الغضب الشعبى مشروعيته، ما استطاع المتربصون والانتهازيون، توجيه مسارات الأحداث، فغالبية الذين خرجوا، لم يكونوا على دراية بحجم المخططات الخفية والممولة من أنظمة وأجهزة استخبارات أجنبية، ولا يعلمون كيف أدارت جماعة الإخوان، كما تبين فيما بعد، المشهد العبثى لإثارة الفوضى، من حرق أقسام الشرطة واقتحام السجون بالتعاون مع أجانب عبروا من الأنفاق، والذين أطلقوا من السجون، فالمصريون الذين خرجوا للتعبير عن رفضهم للأوضاع التى كانت سائدة، كان غالبيتهم صادقون فى غضبهم ضد تحالف الثروة والسلطة، وضد تنامى وتوحش ظاهرة الفساد الذى مازال يطرح أشواكه ومراراته على واقعنا، وما زلنا نعانى من ويلاته حتى الآن، بما يعنى أن الرغبة فى التغيير كانت خيارا شعبيا، انطلق من وعى للمطالب المشروعة، وفهم صحيح لأبعاد ما يريده الشارع من تغيير فى إطار مشروع لمفهوم الحرية والكرامة والعدل الاجتماعى بدون صخب أو فوضى، فالملايين التى خرجت للشوارع ثارت فى وجه الفساد والاستبداد وحكم الشلة ومحاولة توريث الحكم، ومن ثم فإنها هى التى أعطت للأحداث قيمتها ومنحتها شرعيتها وحددت أهدافها، وثارت مرة أخرى عندما انحرفت عن مسارها، فالغضب ضد نظام مبارك كان متوقعا ومشروعا، أما الدور الخارجى فهو محاولة لهندستها لتحقيق المرامى المخطط لها. فى البداية صدق المصريون الشعارات، وعندما انحرفت الأحداث عن مسارها، ثاروا ضدها مرة أخرى فى 30 يونيو.
تداعيات الأحداث كشفت بجلاء عن الدوافع الحقيقية التى حركت الطوفان البشرى فى ميادين مصر، كما أزاحت النقاب عن الدور الذى لعبته الأيادى الخفية للقفز على المطالب المشروعة، ودهس الرغبة النبيلة، ليحل بدلا منها أجندات داخلية وإقليمية ودولية، مفادها إغراق الجيش وبقية المؤسسات فى مواجهة ضجيج الشوارع وجماعات الإرهاب الممولة من الخارج، وعندما نقول الخارج، لابد وأن تكون أصابعنا متوجهة نحو قطر وتركيا، وعندما نقول جماعات الإرهاب تتوجه أصابعنا بدون تردد نحو الجماعة المارقة، هؤلاء احترفوا الكذب كما يتنفسونه، بل بلغ الكذب حد الإدمان، ولا نبالغ إذا قلنا أنه صار عقيدتهم، فهم لا يتورعون إطلاقا عن أى ادعاءات، هؤلاء خدعوا المصريين كثيرا، عندما صدق الغالبية مظلوميتهم من أنظمة الحكم السابقة، لكن إذا توقفنا أمام الحقيقة بدون رتوش، سنجد أنه لولا المناخ الذى أتيح لهم فى ظل تلك الأنظمة، منذ السادات ومبارك، ما بلغوا هذه الصورة من التوحش والتغول والتوغل، ففى ظل الأنظمة السابقة تمكنوا من الحشد، وامتلاك الثروات وبناء إمبراطوريات اقتصادية مكنتهم من اختطاف النقابات المهنية والتوسع فى إقامة جسور التواصل فى الأزقة والحوارى والريف والمناطق الفقيرة، وهذا بدوره مكنهم أيضًا من اختطاف نتائج 25 يناير بدعم أمريكى وإقليمى واستثمار تكتيكات مخططات الفوضى الخلاقة التى تتفق بالأساس مع أجندتهم التنظيمية.
الجدل حول الحكم على ما جرى سيظل قائما، والحديث عن أن ما حدث كان مدبرا ويدخل فى إطار المؤامرة سيظل هو الطاغى على ما سواه دائما، وهذا ليس اتهاما عشوائيا أبرر به التداعيات الكارثية، فما خرج من وثائق دامغة وما تضمنته أوراق التحقيقات فى كم هائل من قضايا هزت الرأى العام، كافيان لإثبات الحكم عليها، وهذا لا يعنى أن كل المشاركين فيها ضالعون فى معرفة الأسرار والترتيبات التى دارت فى كواليس أجهزة استخبارات عالمية، ولا يعنى أيضًا أن غالبيتهم يدخلون فى زمرة التجار ممن أصبحوا نجوما بفعل الانفلات الإعلامى، بالتأكيد هناك فروق جوهرية بين الفئتين، فالأولى كانت تعلم حجم الغضب فى الشارع، وراحت تنفخ فى النار المختبئة تحت الرماد بأساليب متنوعة، للتحريض، بما يؤكد أنها كانت تعلم الدور المرسوم لها عندما ينفجر الشارع بالغضب، ويؤكد أيضا أنهم شركاء فى التدبير لصناعة الفوضى مثل الإخوان، فهم يدركون أبعاد المشهد ويعلمون أن الفوضى هى الطريق الوحيد الذى يمكنهم من السطو على الدولة وليس اختطاف المشهد الصاخب وحده ليحولوا أبطالا للتغيير، لذا لم يكن غريبا أن يحرضوا على الجيش والشرطة والقضاء، وينضم إلى نفس الفئة منفذين من دون دراية لما هو موكل إليهم مثل الحركات الاحتجاجية التى ملأ المنتمين إليها الدنيا ضجيجا، أما الفئة الثانية، فكانت لديها رغبة فى التغيير نتيجة سيطرة فئة بعينها على الشأن الاقتصادى والسياسى فى الدولة، لكنها كانت ضد ممارسات تكريس الفوضى فى البلاد.
إن محاولات اختطاف الدولة والعبث بمؤسساتها كان الشغل الشاغل للجماعة الإرهابية، وعندما تكشفت هذه الحقيقة، ثار الشعب واقتلعهم من السلطة، وإن كانت الدولة تعانى من الإرهاب الذى يستهدف الأبرياء من المدنيين ورجال الجيش والشرطة، وهم الذين اعترفوا بهذا مثلما اعترف الصبية وغيرهم بالجرائم التى ارتكبوها، فلا أحد ينسى ما أعلنه محمد البلتاجى أحد أبرز قيادات الجماعة المارقة أثناء اعتصام رابعة المسلح، أنه إذا تراجع قائد الجيش عما أعلنه فإن ما يحدث فى سيناء سيتوقف فورا، إذا ما يحدث فى سيناء بتدبيرهم، وما قاله البلتاجى اعتراف صريح بالمسئولية، ألم يكن هذا دليل قاطع لإدانتهم، كما اعترف آخرون بأنهم وراء إشعال الحرائق فى الأماكن ذات القيمة التاريخية والمؤسسات الحيوية. لعبت وسائل الإعلام وقتها دورا مثيرا للاستغراب، عندما صدرت للمشهد العام فئة من الشباب ظنوا بفعل التطبيل الإعلامى، وظهورهم على فضائية الجزيرة أنهم قادرون على صياغة مستقبل هذا البلد وأنهم وحدهم دون سواهم محتكرو الحقيقة، وأصحاب التغيير فصاروا فى غفلة بفعل الهياج وصخب الميادين أصحاب رؤية ثاقبة، تمنحهم الحق فى توجيه سياسة الدولة، كما أراد الإعلام ذلك، رغم سطحيتهم وضحالة تفكيرهم وعدم امتلاكهم أى مقومات سياسية.
كان كل منهم وبدعم خفى من قيادات الإخوان يتصور أنه يفهم كل شىء فى أى شىء، يفتى فى الشأن الاستراتيجى وأبعاد الأمن القومى، ويرصد أبعاد المتغيرات فى السياسة الدولية، ويدلى بدلوه فى القضايا المعقدة، بل بلغ التبجح مدى غير مسبوق، عندما راحوا يحددون من يبقى ومن يرحل، من يحكم ومن يحاكم، تجاهلوا الشعب صاحب الحق الأصيل فى تحديد مستقبله وراحوا يتحدثون باسمه، لذا لم يكن غريبا أن تسمع وقتها عبارة الشعب يريد وكأنهم مفوضون من الشعب الذى ضاق من حالة الانفلات الأمنى والأخلاقى. هؤلاء راحوا يصنعون الأكاذيب، ومن كثرة تكرارها أدمنوها وصدقوها بفعل التهييج الممنهج التى أدارت مشاهده جماعة الإخوان.
تعامل الكثيرون مع الأكاذيب والشائعات، باعتبارها الحقيقة المطلقة التى لا يحيط بها الشك من بعيد أو من قريب، رددهاالمنتمون للحركات الاحتجاجية مثل الببغاوات بلا وعى، وهتف بها من خلفهم المراهقين الحالمين بالحصول على لقب ثورى، هتفوا ضد المؤسسات الصلبة التى يقوم عليها بنيان الدولة، الجيش الشرطة القضاء، دون دراية بأنهم أدوات يستخدمهم قادة مأجورين، وشخصيات دفعت بها واشنطن وقطر ومكتب إرشاد الجماعة المارقة، هؤلاء التجار المحترفون تبعهم مراهقون، لا يعرف غالبيتهم المخططات الشيطانية الرامية لتنفيذ مشروع الفوضى الخلاقة، الذى أطلقته كوندليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية قبل اندلاع شرارة الغضب الشعبى بخمس سنوات كاملة، وهو المشروع الذى تم بمقتضى تكتيكاته، تدريب بعض قيادات الحركات الاحتجاجية، مثل حركة ٦ أبريل، والاشتراكيون الثوريون، وجرى تمويلهم وإيفادهم لعدد من البلدان التى جرت فيها الثورات الملونة ولندن ونيويورك، جرى تدريبهم على كيفية استخدام وسائل التواصل الاجتماعى لتنفيذ الأجندة الأمريكية الصهيونية فى المنطقة العربية، عبر تقسيم أقطارها دويلات صغيرة على أساس عرقى ومذهبى وطائفى، بما يجعل البلدان العربية دويلات صغيرة هشة لا تقوى على حماية حدودها ولا تستطيع تلبية احتياجات شعوبها أو الحفاظ على ثرواتها وخيراتها، وكما تضمن تلك الأجندة فى ذات الوقت تفوق الدولة العبرية، التى لم تكن بعيدة عن المشاركة فى صياغة مخططات الفوضى لتفكيك جيوش المنطقة بعد إنهاك قواها فى حروب ضد الإرهابيين، وتشتيت جهودها فى المواجهات مع مثيرى الفوضى فى الداخل، وهو ما جرى بالفعل فى العراق وسورية وليبيا واليمن، لكن فى مصر، اصطدمت تلك الأجندة بقوة الجيش الصلبة.
كانت الأكاذيب جميعها تصب فى خانة توجيه الاتهامات بلا حدود للشرطة فى جرائم القتل والنهب وفتح السجون وصناعة الانفلات الأمنى، بهدف التحريض ضدها وافتعال المواجهات معها بما يمهد لإدانتها دوليا، ولديهم المنظمات المدعومة من أجهزة الاستخبارات لإعداد التقارير المطلوبة، لتوجيه الإدانة ثم هدمها فى إطار مخططات نشر الفوضى، رغم أن الحقيقة المؤكدة يعرفها القاصى والدانى فى بر مصر، هى خروج وزارة الداخلية من المشهد منذ مساء يوم الجمعة ٢٨ يناير، على الرغم أنها الحقيقة الدامغة، إلا أن تلك الحقيقة، ظلت كسيحة، عاجزة عن الوقوف فى وجه محاولات الإدانة العشوائية فى وسائل الإعلام، الأمر الذى ساهم فى تنامى الاتهامات ضدها واتساع دائرة تشويهها بصورة ممنهجة عبر إلصاق الأكاذيب المدبرة بفعل فاعل، حتى صارت الأكاذيب فى نظر الكثيرين حقائق ومسلمات تستخدم فى التدليل على الأحداث التى مرت بها البلاد، خاصة أن الأضاليل كانت محاطة بالقداسة الثورية ومحصنة بقوة الضجيج فى الميادين.
بعد ثمانى سنوات صار من الممكن تفنيد المغالطات، خاصة أن الحقائق صارت موثقة، وليست فى حاجة لإثباتها من أحد، فما جرى فى ٢٥ يناير ٢٠١١، لم يكن حدثًا عاديا، يمكن النظر إليه من أو الحكم عليه من زاوية رؤية ضيقة، محصورة فقط فى خروج الملايين إلى الميادين، مطالبين بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، أو حصرها فى رحيل نظام مبارك، لكنه حدث مهم وقادت تداعياته لما نحن فيه الآن، حدث وإن شئنا الدقة، سيجبر الباحثين على التوغل فى ثناياه، والبحث فى خلفيات التفاصيل المعقدة لأحداثه، التى تتنوع بين أجندات تنظيمية وطموحات إقليمية وإستراتيجيات صهيوأمريكية، كما أنه فى ذات الوقت يعتبر حدثًا فارقًا ومؤثرًا، شأن كل الأحداث الكبرى فى التاريخ الإنسانى وإن أحاط به الجدل من كل جانب بين مؤيد له ورافض للعبث إلى أن اجتاح البلاد وقادت تداعياته لسيطرة الفاشية الدينية على مقاليد الأمور.
فى السنوات الأولى ظل الحديث عن 25 يناير محاطا بالقداسة، وظل انتقادها يمثل منطقة حرجة شائكة، ملغمة، بل يرى البعض، وما أكثرهم، أنها محرمة، بفعل التسلط النخبوى، ونرجسية المراهقين السياسيين، والإعلاميين الذين مارسوا أبشع أنواع التضليل، كما أنها ظلت أيضا بعيدة عن النقد الموضوعى، لأسباب معلومة، فى مقدمتها المخاوف من التعرض للاغتيال المعنوى، على أيدى مروجى الشائعات والجماعة المارقة، خاصة أن احتكار الوطنية كان عنوانا للمدافعين عنها، والعمالة صارت تهمة لمنتقديها ورافضيها المدافعين عن استقرار وهيبة الدولة. على الرغم أن ما جرى لم يكن تلقائيا وتم الإعداد له بدقة، إلا أن غالبية المشاركين الذين توافدوا إلى الشوارع، كان خروجهم عفويا تلقائيا ومشحونا بالرغبة النبيلة فى تغيير الأوضاع المتردية على المستويات كافة.