
أردوغان يستغل الجريمة الإرهابية ضد خصومه السياسيين قبل إجراء الانتخابات المحلية
موقف رئيسة الوزراء النيوزيلندية من الجريمة يمثل نقطة تحول جوهرية فى مكافحة الإرهاب
دونالد ترامب بدأ حكمه فى البيت الأبيض بقرارات عنصرية لمغازلة اليمين المتطرف فى بلاده وأصدر قرارًا يحظر دخول مسلمى بعض الدول للولايات التحدة الأمريكية
حكومة نيوزيلندا تتهم أردوغان بتعريض مواطنيها فى الخارج للخطر عبر نشره للفيديوهات الصادمة
لا ينكر عاقل فى هذا الكون أن ما جرى للمصلين فى واقعة المسجدين بإحدى مدن نيوزيلندا، والتى راح ضحيتها 50 مسلمًا وإصابة آخرين، أثناء تأديتهم للصلاة، كان بمثابة صدمة، تجاوزت فى مضمونها كافة الشعارات وخطابات التنديد التى صدرت هنا وهناك، أيضا تجاوزت حدود المكان والزمان، وفتحت الباب على مصراعيه أمام انتقادات حادة لأساليب لا تقل فى بشاعتها عن الجريمة الإرهابية ذاتها، المقصود استغلال الجرائم الإرهابية فى مزاد المتاجرة السياسية من أطراف، دأبت على اطلاق التصريحات الجوفاء أمام الميكروفونات والكاميرات، وسرعان ما يتلاشى صداها ويتوارى بريقها .
الصدمة عبرت عنها كل وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، فقد باتت الحادثة الإرهابية البشعة العنوان الأبرز فى الفضاء الإلكترونى، وأصبحت تحتل موقع الصدارة «تريند» يتقدم على ما عداه من أنباء ومصائب وكوارث حدثت على اتساع الكرة الأرضية، من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها، فالحدث جلل هز مشاعر البشرية وهز مشاعر المدافعين عن حرية الاعتقاد من المسلمين والمسيحيين واليهود والبوزيين، وغيرهم، لأنها ببساطة شديدة جدا، جريمة تتنافى مع كل القيم الإنسانية التى تتفاخر بها المجتمعات المتحضرة، فالجريمة لا يقرها أى دين سماوى أو عرف إنسانى، لكن ما أثار الدهشة أن تفاصيل الواقعة جرى بثها، بواسطة« برينتون تارانت» الإرهابى الذى ارتكب الجريمة العنصرية اللاإنسانية البشعة، وغيره ممن حرصوا على بثها بالصوت والصورة، حتى استيقظ من بيدهم إدارة الفضاء بقنواته ومواقعه المتنوعة والمتعددة، فأخرجوا من السياق الذى جرى بثه صورا بشعة، لكن كان هناك من أصر على أن يرسلها إلى آخرين ويدخل بها المزاد .
أن الإرهابى العنصري الذى ينتمى إلى اليمين المتطرف، اقتحم المسجدين أثناء صلاة الجمعة، وقام بإطلاق الرصاص على المصلين فقتل وأصاب حوالى 100، فى مذبحة يندى لها الجبين الإنساني كله، لبشاعتها، وهو ما أدانه الجميع بوصفه عملا إرهابيا جبانا تستنكره كل الدول وكل شعوب الأرض.
رغم الوحشية البغيضة لتفاصيل تلك الحادثة، علينا فى سياق الحديث عن تلك الجريمة الإرهابية، إلقاء الضوء على حزمة من الحقائق، لا يمكن إغفالها بحال من الأحوال وهى أن التطرف والإرهاب لا وطن ولا دين له ولا لون له، وهو الأمر الذى أكدت عليه الدولة المصرية فى أكثر من مناسبة دولية للحث على التعاون الجاد للقضاء عليه لكن للأسف لا يتحرك العالم إلا بعد وقوع الكوارث، وهذا فى حد ذاته كارثة .
التعليقات والتصريحات على الحادث حدث ولا حرج، كانت كاسحة فى استنكارها ورفضها، بل بها ما يصب اللعنات على من ارتكبها، وعلى كل من يحمل أفكارا عنصرية مسمومة، لذا بدا الأمر وكأنه نوع من الوحدة العالمية لنبذ الإرهاب وتفنيد مخاطره على البشرية، لكن هذه المرة لم تكن الهجمة السياسية والإعلامية موجهة ضد التنظيمات الإرهابية التقليدية، المعلوم مقاصدها لدى الجميع والمعروفة مسمياتها للجميع «داعش - القاعدة - الإخوان» لكنها كانت هجمة ضد اليمين العنصرى المتطرف، المتمثل فى أصحاب التوجهات القومية العرق الأبيض، هؤلاء لديهم قناعات وموروثات فى أدبياتهم، بالتفوق العنصرى، وهذا نوع من الشيفونية البغيضة التى تجاوزها التحضر الإنسانى، فضلا عن أن الزمن عفا عليها، فهؤلاء يعتقدون أن حربهم مع الإسلام والمسلمين بدأت منذ قرون ولم تنته بعد، ويرون فى الثقافة الإسلامية وبالا عليهم جراء الترويج الزائف بأن الإسلام هو ما يروج له المتطرفون ممن يرتكبون جرائمهم بفتاوى دخيلة على الدين، بما يعنى أن الإسلام برىء منها تماما .
كما كان مثيرا للاستغراب، أن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، سارع بالإدلاء عبر تصريحات، جاءت على طريقة المشاركة فى الإدانة ليس إلا، حيث وصف الجريمة بأنها مجزرة، نعم هى مجزرة، بحسب وصفه للجريمة التى جرى ارتكابها بعنصرية بغيضة، لكن ترامب تناسى أو تجاهل، أنه سيتحمل نصيبًا وافرًا من الإدانة السياسية والأخلاقية فى هذه الجريمة وغيرها من الجرائم العنصرية، لأنه شارك بقصد فى تنامى موجة الإسلاموفوبيا، المتصاعدة حدتها بصورة مخيفة فى المجتمع الغربى« الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوربية«، كما أن الرئيس الأمريكى نفسه بدأ حكمه فى البيت الأبيض بقرارات عنصرية لمغازلة اليمين المتطرف فى بلاده، حيث أصدر قرارًا يحظر خلاله دخول الأراضى الأمريكية لمسلمى بعض البلدان حددها بالاسم، مشيرًا إلى أنها موردة للإرهاب الدولى .
إن قرار ترامب كان بمثابة البداية لانطلاق الرقصة الأولى فى حفلة الزار العنصرى، التى نصبت ضد كل من ينتمى للإسلام بمزاعم مغلوطة وترويج زائف لوصف الإسلام كدين بالعنف والدموية، وما يثير الاشمئزاز من الإرهاب المنسوب زورا للإسلام والإرهاب العنصرى المضاد، أن الجرائم ترتكب ضد مسالمين أبرياء، فإرهاب الجماعات والتنظيمات الممولة من الغرب والتى تعمل تحت مظلة حماية أجهزة استخباراته، لا يختلف كثيرًا عن الإرهاب العنصرى، كلاهما يجد الدعم والمؤازرة لتحقيق مكاسب سياسية على حساب الإنسانية.
من الرئيس الأمريكى الذى بدأ حكمه بالترويج للإسلاموفوبيا إلى الرئيس التركى «أردوغان» الذى دعم بكل قوة التطرف وأتاح الفرصة لتدريب التنظيمات الإرهابية على أراضى دولته، لا يختلف الأمر كثيرًا، كلاهما وجد فى الجريمة الإرهابية التى ارتكبت بحق المصلين، الفرصة سانحة أمامه لتحقيق مراميه السياسية، فالأول أراد المشاركة كنوع من المواءمات السياسية عبر رفضه لأشكال الإرهاب، أما الثانى فأراد ركوب الموجة لمغازلة الشعوب الإسلامية، والأهم من هذا لديه، مخاطبة التنظيمات التى يقوم برعايتها لتحقيق حلم الخلافة، لذا فإن محاولاته لاستغلال حادث مسجدى نيوز يلندا الإرهابى، عبر قيامه ببث اللقطات التى جرى تداولها بين الأتراك، وذلك فى الوقت الذى قام فيه موقع فيسبوك بإزالة المقاطع المؤلمة لعملية القتل العشوائى.
أردوغان بحسب تقارير غربية، قام بعرض مقاطع واضحة من الفيديوهات الصادمة خلال مؤتمرات انتخابية عقدها في العديد من المدن التركية، حيث اتهمته التقارير بتأجيج مشاعر مؤيديه الإسلاميين المحافظين، ومهاجمة خصومه السياسيين، قبيل الانتخابات المحلية المقرر إجراؤها قريبًا، غير أن استغلاله لهذه المقاطع المصورة أثار فى نفس الوقت انتقادات لاذعة من حكومة نيوزيلندا، وجاءت الانتقادات عبر وزير خارجيتها، الذى قال إن نشر هذا الفيديو يمكن أن يعرض مواطنى بلاده للخطر، كما أبلغ المسئولون الأتراك، أن أي شىء من قبيل ذلك يشوه سمعة نيوزيلندا فى المجتمع الدولى، خاصة أن الإرهابى العنصرى غير نيوزيلندى، كما وصف تصرفات الحكومة التركية بأنها تعرض مستقبل وسلامة الشعب النيوزيلندى فى الخارج للخطر .
القراءة الدقيقة لمحاولات استغلال الجرائم الإرهابية بهدف تحقيق مكاسب سياسية ضيقة، لا تتجاوز فى حدودها الظهور فى صورة البطل المدافع عن الإسلام، عبر إدانة العنصرية ضد المسلمين فى أوروبا، في حين أنه سعى لتصوير العديد من خلافات تركيا مع الدول الغربية وكأنها ناجمة عن التعصب متخذًا قى ذلك طريقة« كوهين ينعى ولده ويصلح ساعات ».
نفس التقارير أشارت إلى أن أردوغان دأب على إثارة هذه المظالم فضلا عن القضايا الشعبية الأخرى لتكون فى الصدارة خلال حملته الانتخابية الحالية، حيث يواجه حزبه العدالة والتنمية انتقادات وهجوم فى الدوائر السياسية بسبب الانخفاض الحاد الذى شهده الاقتصاد التركى فى الآونة الأخيرة .
أردوغان بادر بإدانة الهجمات على مسجدى نيوزيلندا، بكتابة تغريدة على موقع تويتر قائلا: إن هذه المذبحة هي عمل مؤسف، والمثال الأحدث على ارتفاع معدلات العنصرية والإسلاموفوبيا، لكنه سارع بعدها بوقت قليل لاستغلال هذا الحادث كسلاح فى مواجهة خصمه السياسى الرئيسى فى تركيا وهو زعيم حزب المعارضة الرئيسى كمال كليتشدار أوغلو.
رغم أن الحادث الإرهابى يبعث على الحزن، لكن ما جرى بعده ربما يفتح الطريق للأمل، ويقدم دروسا كثيرة يمكن الاستفادة منها فى المنتديات العالمية، فقتل المصلين داخل المساجد لم يكن المرة الأولى فقد حدثت قبل ذلك من إرهابيين آخرين فى مسجد الروضة فى شمال سيناء، وراح ضحيتها ٣١١ من الأبرياء، كان «داعش »فخوراً فى ذلك الوقت، بارتكابه جريمته بالضبط مثلما كانت حالة الإرهابى العنصرى فى الناحية الأخرى من العالم، وبعيدا عن كل بلاد المسلمين دخل المسجدين وارتكب جريمته وراح يبثها بالصوت والصورة بزهو وكأنه حقق نصرًا يجب الاحتفال به.
لا يفوتنا فى هذا السياق التأكيد على أن نيوزيلندا، قدمت للبشرية دروسا فى رفضها الإرهاب، بكل أشكاله، لذا لم يصدر عن حكومتها أى تبرير من أى نوع، للخروج من مأزق الجريمة التى حدثت فوق أراضيها، بل كان هناك إحساس شعبى ورسمى بالخجل والعار، لأن العملية جرت فوق أراضيهم التى لم تكن بعيدة عن مصائب العالم .
إن مشهد رئيسة الوزراء النيوزيلندية «جاسين أردين» وهى ترتدى الحجاب وتعزى أسر شهداء الحادث وتواسى الجرحى فى المستشفيات ربما تكون نقطة تحول جوهرية فى مكافحة الإرهاب، فالمشهد به تحفيز لحكومات أخرى لا تتحرك إلا وفق مصالحها، مصالحها فقط، باعتبار أن الجرائم الإرهابية، لا تخص الدين أو اللون أو الجنس، وإنما تخص الإنسانية فى كل بقاع الأرض، رغم المنافسات والنزاعات والصراعات، التى تحدث بين المجتمعات والحكومات فى قارات الكرة الأرضية.
جانب آخر لا يمكن إغفاله أو تجاوزه، وهو المتعلق بالزخم الشعبى فى نيوزيلندا، وهو زخم رافض للإرهاب، تمثل ذلك فى حمل الورود وتقديمها المصلين، وزيارة المساجد لإعلان التعاون ضد التطرف العنصرى والدينى، وجميعها رسائل يجب الالتفات إليها بقدر من الإيجابية والتعلم من دروسها فى التحضر والرقى الإنسانى.