في تصريح استفزازي كعادته أكد وزير الخارجية الإثيوبي قبل أسابيع أن سد النهضة سيكون قد اكتمل من حيث الملء الخامس والأخير ليعمل بشكل مكتمل بنهاية عام ٢٠٢٤ الجارى، وبالرغم من ذلك أبدت بلاده استعدادها لاستئناف المفاوضات مع مصر والسودان بوصفهما دولتى المصب، وهو ما رفضته الخارجية المصرية بشكل رسمى واخطرت الأمم المتحدة ومجلس الأمن في مذكرة رسمية بأن أديس أبابا تبحث عن غطاء تفاوضى لممارساتها المنافية والمخالفة للقوانين الدولية والقواعد المنظمة لإدارة الأنهار العابرة للحدود، ومن ثم لم تعد القاهرة مستعدة لمزيد من التفاوض من أجل مضيعة الوقت، وبعد ١٣ عاما من المفاوضات التى لم يبدى خلالها الجانب الاثيوبي أى حسن نية تجاه مصر والسودان بل حاول استعداء الأخيرة على مصر حتى أيقنت الخرطوم خطورة هذا السد بعد أن انهارت سدودها وغرقت قراها وبيوت أهلها، الذين قرروا الانحياز إلى القاهرة ضد العداء الاثيوبي الذى امتد إلى التحرش بالصومال والتحالف مغ إقليم أرض الصومال الانفصالي لأن مقديشيو حليف للقاهرة فى القرن الأفريقي.
ولأن شهر أكتوبر بالنسبة لمصر هو شهر القدرة والانتصار وعبور التحديات استهل رئيس الحكومة المصرية الدكتور مصطفى مدبولي شهر أكتوبر الجارى بالحديث عن أزمة نقص المياه مؤكداً أن بلاده اتخذت كل الإجراءات اللازمة لتقليل الأضرار الناجمة عن ملء وتشغيل السد الاثيوبي من محطات معالجة المياه إلى تحلية مياه البحر وغيرها من البدائل ولكن يبقى نهر النيل المصدر المائى الرئيس الذي لا بديل له ولا تفريط بحق مصر وحصتها فيه وهو ما وصفه المحللون بأنه رسالة تحذيرية أطلقتها القاهرة مطلع شهر الانتصارات إبان لقاء رئيس وزراءها مع تخبة من كتابها ومثقفيها، وهو ما يعني احتفاظ مصر بحقوقها في إتخاذ كافة الإجراءات لحماية أمنها المائى.
أما عن تلك الخيارات المتاحة أمام الجانب المصري والمطروحة على مائدة نقاشات المحلللين والمتخصصين فتتمثل في الخيار العسكري ولو عن طريق الردع وهو ما لا ينفصل عن اتفاقية الدفاع الاستراتيجي المشترك التى وقعتها مصر مع الصومال، بالتوازي مع توطيد علاقاتها مع أريتريا، أما الخيار الثاني فهو اللجوء للقانون الدولي والتحكيم الدولى، والذي تختلف الآراء حول مدى جدواه في التعامل مع أزمة سد النهضة بشكل فعال.
وفي هذا السياق يرى المعارضون لفكرة اللجوء للمجتمع الدولي أن المحاكم الدولية لا تنظر القضايا إلا بموافقة الطرفين وبالتالي تستطيع إثيوبيا أن تعرقل الأمر، بينما يؤكد المؤيدون للفكرة أن القضاء الدولي هو الذي أعاد طابا إلى حضن الوطن وهو الذي أدان رئيس الحكومة الصهيونية بنيامين نتنياهو وحكومته واثبت إدانته في جرائم الإبادة الجماعية وهو ما أجبر رئيس حكومة الاحتلال على فتح جبهات قتالية أخرى في لبنان واليمن وصولاً إلى إيران لالهاء الرأى العام العالمي عن هذه الأحكام الصادرة ضده وضد قادة حماس أيضاً، وإذا كانت إسرائيل تحتمى بالولايات المتحدة الأمريكية فإن اثيوبيا حتى الآن لم يعلن أحد دعمها بشكل واضح باستثناء بعض الدول التى تستثمر فيها أو تزعم أن مشروع سد النهضة نفسه مشروع تنموي كهرومائى للتغطية على اهدافه السياسية والإستراتيجية، التى مهما بلغت أهميتها لن تتيح لإثيوبيا أن تحظى بالحماية والدعم الذي تقدمه امريكا وأوروبا لإسرائيل.
أما عن الضرر الذي يلحقه هذا السد بمصر فهو لا يقل عن مخاطر الاحتلال الصهيوني، لأن مصر تعتمد على مياة النيل لتغطية نسبة ٩٨٪ من احتياجاتها المائية وبسبب هذا السد تراجعت حصة مصر من المياة بنسبة ٥٥.٥٪، علماً بأن مصر أساساً تقع تحت خط الفقر المائي فلا يتجاوز نصيب الفرد ٥٠٠ متر مكعب من المياه سنوياً، أما الإجمالى فيبلغ 55.5 مليار متر مكعب سنويًا.
المسئولية الدولية تتطلب التدخل لحفظ الأمن والاستقرار فى منطقة ملتهبة لا تتحمل المزيد من الحروب
إثيوبيا تتعامل بأسلوب الإرادة المنفردة وسياسة الأمر الواقع والعالم يغض الطرف عن جريمة مكتملة الأركان
- اتفاقيات التعامل مع الأنهار عابرة الحدود تنص على الانتفاع المشترك والإخطار المسبق والتشاور لعدم إلحاق أى ضرر بالغير
- هؤلاء يفتحون مجالًا للصراع المائى الدولى بين دول حوض النيل الـ11
إذا كانت القيادات العسكرية ترفض الحديث عن إمكانية واحتمالات التدخل العسكري لأن مثل هذه الأمور لا تناقش في الإعلام فإن الخيار القانوني لا يدخل ضمن قائمة الأسرار الاستراتيجية، لأن قواعد ونصوص القانون الدولي معلنة وتدرس في الجامعات كما أن هناك سوابق لدى محاكم التحكيم الدولي لمثل هذه النزاعات حول الأنهار العابرة للحدود والفرق بينها وبين الأنهار الداخلية، وفي هذا السياق يؤكد المحللون أن ما تفعله اثيوبيا جريمة تتمثل في تعمدها حجب المياة عن دولتى المصب مصر والسودان، وتتصرف كما لو كان نهر داخلى يجرى داخل أراضيها متجاهلة حقيقة أنه أطول أنهار العالم ويتشارك فيه ١١ دولة.
وحول الخروقات التي ترتكبها أديس أبابا ضاربة عرض الحائط بالقانون الدولي والأعراف والقواعد المتبعة في هذا الشأن، صدرت مؤخراً دراسة بعنوان ( المسئولية الدولية: سد النهضة كأحد المخاطر العابرة للحدود) أعدها الدكتور محمد حربي، الذي استهل ورقته البحثية بالأرقام التى كشفت حجم التخزين الكبير والبالغ ٥٧ مليار متر مكعب، وستصل إلى ٦٤ مليار متر مكعب، وحذر ( حربى) من تداعيات أزمة المياة الحالية والتي يخشى من أن تهدد استقرار الإقليم، حيث ظلت اثيوبيا تستخدم المفاوضات لفرض سياسة الأمر الواقع.
وطالبت الدراسة المجتمع الدولي بالتدخل لإتخاذ الإجراءات اللازمة للقيام بمسئولياته ليس فقط لحفظ الحقوق المائية لدولتى المصب، ولكن أيضاً لحماية أمن واستقرار الإقليم، في ظل توترات الأوضاع الحالية التي تجعل المنطقة ملتهبة بما يكفي ولا تتحمل مزيد من الصراعات والنزاعات.
وأشارت الدراسة إلى خطورة تعنت الجانب الاثيوبي نظراً لغياب الإطار القانوني الجامع الذي يحظى بقبول الجميع، مما يفتح مجالاً للصراع المائى الدولى بين دول حوض النيل.
أما عن المسئولية الدولية التي تتطلب التدخل للسيطرة على هذا الصراع المحتمل والحد من تداعيات الأزمة القائمة بالفعل، أوضحت الدراسة أنها تستند على فكرة الضرر بشكل موضوعي وعلى وجه التحديد تؤسس المسئولية تجاه مصر على الأخطاء التي ارتكبتها ومازالت ترتكبها اثيوبيا وفي مقدمتها أنها تتعامل في أفعالها بنظرية السيادة المطلقة، وكأنه نهر داخلى وليس نهر دولي، وهو ما يخالف قواعد القانون الدولي.
وشدد الدكتور "محمد" علي أن جميع المعاهدات والاتفاقيات الدولية تأخد بنظام الانتفاع المشترك لمياة النهر الدولى والتوزيع العادل والمنصف للمياة، بهدف المحافظة على الحقوق التاريخية المكتسبة، وتلك المعاهدات الدولية تنص دائماً على ضرورة التشاور قبل البدء في أى أعمال والاخطار المسبق قبل القيام بأى تصرف، وهو ما ينطوي على أهمية نبذ فكرة السيادة المطلقة والتصرفات أحادية الجانب خاصةً حين يتعلق الأمر بإحداث أى ضرر بالغير.
أبرزها حكم محكمة العدل الدولية ضد بريطانيا وقضية بحيرة لانو ضد فرنسا
سوابق قضائية وأحكام تثبت خروقات الجانب الاثيوبى
يعد مبدأ المعاملة بالمثل من الثوابت المعمول بها دائمًا فى القضاء المحلى والعالمى، حيث يطبق من خلال القياس على أحكام سابقة صدرت فى قضايا مشابهة من خلالها يمكن أن نتوقع الأحكام التى ستصدر لاحقًا، لأن الحاللات تتشابه والقواعد القانونية لا تتغير، والمفترض أن العدالة لا تكيل بمكيالين.
وفى هذا السياق أوردت الدراسة عدة حالات مشابهة أبرزها حكم محكمة العدل الدولية في القضية بين المملكة المتحدة وآيسلندا 25 يونيو 1974، ونصت على ضرورة الموازنة بين مصالح الدول المعنية بشكل عادل وبطريقة ليس فيها النظر لمصلحة دولة على حساب دولة أخرى مع مراعاة الحقوق المكتسبة.
وهناك أيضًا قضية بحيرة لانو، حيث رغبت فرنسا في استخدام مياه (بحيرة لانو) التي تصب مياهها في مجرى
( نهر كارول ) الذي يجري في الإقليم الإسباني لإنتاج الطاقة الكهربائية بدون الاتفاق مع إسبانيا، وبينت المحكمة أن هذه الأعمال ستؤدي إلى مخاطر في حالة ما انتشرت في العالم مثل هذه التصرفات، ولم يتبين أنها تحمل مخاطر استثنائية في علاقة الجوار أو في استخدام المياه،
ولو أن المحكمة تبين لها أن هناك مخاطر ستلحق بإسبانيا وهذه المخاطر ذات طبيعة استثنائية لحملت فرنسا المسئولية، فما بالك بأزمة ستلحق ضرر مباشر بمصر بالإضافة إلى أنها تهدد المنطقة بخطر اشتعال مزيد من الحروب والصراعات.
وانتقلت الدراسة إلى الحديث عن نزاع اشتعل بين كندا والولايات المتحدة الأمريكية حول السد الذي يتم بناؤه بين الجزر الكندية والجزر الأمريكية، ووقتها قضت المحكمة المشكلة للفصل في الدعوى المتعلقة ببحيرة Ontario سنة 1968 بمسئولية كندا عن الأضرار التي لحقت بأمريكا حتى دون أن تخلص إلى وجود إهمال أو تقصير من كندا في هذا الخصوص.
خفايا الأسباب السياسية للسد وهل هو مشروع تنموى كهرمائى أم آداة للضغط على مصر ؟!
- أهداف أبى أحمد ومن وراءه تتجه إلى أسر نهر النيل والتحكم فيه من أجل بسط النفوذ وتغيير خريطة توازنات القوى فى القرن الإفريقى
يجمع الكثير من المحللون على أن أهداف سد النهضة لا تتوقف عند التنمية وتوليد الكهرباء، ولا يرى هؤلاء أن السد مجرد مشروع تنموى كهرومائى، ولكن فى زمن استعال الحروب على المياة العذبة خاصًة مع تنامى خطر التصحر والجفاف والتغيرات المناخية، وفى منطقة القرن الافريقى ومضيق باب المندب الملتهبة والمشتعلة بالأزمات من كل جانب والقريبة من قناة السويس، تتضح الأهداف السياسية على خلفية علاقة حكومة أبى أحمد بالحكومات الإسرائيلية والتركية والأمريكية من ناحية، وأزماتها مع الصومال وارتيريا وبحثها كدولة حبيسة عن منفذ يطل على البحر الأحمر من ناحية أخرى.
وعلى خلفية ذلك تتضح أسباب منح أبى أحمد جائزة نوبل للسلام، وصمت المجتمع الدولى على جرائمه فى حق قبائل من داخل شعبه وثورات هؤلاء ضده، ناهيك عن تحرشاته بالحدود السودانية وتدخلاته فى قلب الصومال ودعمه أقليم أرض الصومال الانفصالى، كما تتضح أيضًا أسباب صمت المجتمع الدولى على قضية سد النهضة، وتتجلى أهداف الدولة الإثيوبية السياسية الحقيقية والتي ترمي إلى أسر نهر النيل والتحكم فيه وتحويله من نهر عابر للحدود جالب للحياة إلى أداة سياسية لممارسة النفوذ السياسي وبسط السيطرة، وهو ما يهدد تقويض السلم والأمن في المنطقة، فالسيطرة الأحادية الجانب على مورد مياه مشترك من قبل دولة ما، يعد تغولًا على حصة دولة أخرى وانتهاكًا لمبدأ الاستخدام المنصف والمعقول للموارد المشتركة.
وبالنظر إلى عنصر التوقيت نجد أنها بدأت فى بناء السد عام 2011 وهو نفس العام الذى بدأ بنشر الفوضى فى مصر واستغلال أحداث ثورة يناير، التى لم يعد خافيًا على أحد تدخلات دول وأجهزة استخباراتية لتغيير مسار هذه الثورة واستغلالها لصالح تمكين جماعة إرهابية لا تعترف بالحقوق أو السيادة المصرىة، ولا تنكر تحالفها مع أمريكا وإسرائيل وغيرهما ضد مصلحة مصر على مر تاريخها الملوث بالعمالة والخيانة منذ أن أسسها الاحتلال البريطانى، ومن هنا يتضح أن هذا السد ماهو إلا جزء من مؤامرة لتركيع مصر.
ومازالت هذه المؤامرات المتوازية مستمرة من ضربات الحوثيين الموجهة ضد قناة السويس، إلى محاولات النفاذ إلى سيناء عبر معبر رفح، وصولًا إلى ما تقوم به إثيوبيا من بناء وتشغيل سد النهضة وتخزين المياه، وهوعمل غير مشروع يحظره القانون الدولي وفقًا لنظرية العمل غير المشروع، وكذلك الإرادة المنفردة فيما تفعله دولة إثيوبيا وانتهاجها نظرية السيادة المطلقة، وكلها أفعال غير مشروعة يحظرها القانون الدولي.
ويزداد الأمر سوءاً فى ظل صمت العالم على محاولات حجب المياة عن دولة وقتل أهلها وتبوير أراضيها عطشًا فى عالم يطارده خطر الشح المائى، وهو ما يعد بكل المقاييس جريمة دولية، تتنافى مع الحق في الحياة، وهو من أهم الحقوق المؤكدة في كافة المواثيق الدولية.