نعلم أن الاقتصاد والسياسة وجهان لعملة واحدة وأن الحروب والصراعات الجيوسياسية في أى منطقة من الطبيعي أن تؤثر على دولها وعلى العالم أجمع بعدما أصبح قرية صغيرة تنعكس أجواء التوترات في مكان منه على أماكن أخرى بعيدة.
أما عن منطقة الشرق الأوسط وحوض البحر المتوسط وسواحل البحر الأحمر فتعد الأكثر توترا في العالم حالياً، بدءاً من اشتعال حرب غزة في السابع من أكتوبر عام ٢٠٣ وامتداد التوترات إلى الحدود المصرية ومعبر رفح في سيناء، ثم دخول الحوثيين الموالين لإيران على الخط وإطلاق صواريخ زعموا أنها تستهدف السفن الإسرائيلية ولكن في الحقيقة لم يتأثر بها إلا إيرادات قناة السويس المصرية، التى تمثل المصدر الأول للنقد الأجنبي في الناتج المحلي الإجمالي، وتطور الأمر من الحوثيين أتباع إيران إلى الاشتباك مع إيران نفسها من استهداف طائرة رئيسها السابق ابراهيم رئيسى إلى اغتيال اسماعيل هنيه رئيس المكتب السياسي لحركة حماس داخل طهران بالتزامن مع اغتيال فؤاد شكر القيادى بحزب الله اللبناني الموالى لإيران، ولم يتوقف الهجوم الإسرائيلي على الحزب عند هذا الحد بل استطاعت تل أبيب اختراق الحزب واغتيال جميع قيادات الصف الأول والثاني وعلى رأسهم الأمين العام للحزب حسن نصر الله شخصياً، لتدخل لبنان دائرة من الازمات تصل إلى الاجتياح الإسرائيلي البرى لاراضيها ما يلقى بظلاله على منطقة شرق البحر المتوسط حيث حقول الغاز الطبيعي المصرية.
وفي ظل هذه الأجواء من الطبيعي أن تتراجع إيرادات السياحة خاصةً في سيناء والمدن القريبة من الصراعات والمتاخمة للحدود، ومن المنطقي أيضاً أن تؤثر هذه التداعيات على اقتصاديات دول المنطقة ومن بينها مصر، بل وتأثرت حركة التجارة العالمية والنمو الصناعى في العالم بشكل عام ما أدى إلى تراجع أسعار النفط وتراجع إيرادات مصر من مرور الشاحنات النفطية عبر سواحل البحر الاحمر وقناة السويس.
ويتوقع الخبراء أن تواصل فاتورة الخسائر ارتفاعها في ظل ارتفاع وتيرة التوترات بين إيران وإسرائيل وحرص الأخيرة على إطالة أمد الحرب وعدم وقف إطلاق النار لأن ذلك يصب في مصلحة حكومة بنيامين نتنياهو المتطرفة ويحميه هو شخصيا من الإقالة والمحاكمة عالمياً بتهمة الإبادة الجماعية وداخليا في اسرائيل على خلفية قضايا فساد وتظاهرات غاضبة للرأى العام في تل أبيب.
وفيما يتعلق بالحكومة المصرية فقد أكد رئيسها الدكتور مصطفى مدبولي في تصريحات إعلامية مؤخراً أننا نعيش ظرف استثنائي يلقى بظلاله على دول المنطقة ومن بينها مصر، التى يؤكد الخبراء أنها أصبحت جزيرة في وسط بحر مشتعل بالصراعات، تعانى من تدفق اللاجئين من كل حدب وصوب فارين من نيران المعارك إلى داخل حدودها ليشاركوا أهلها في مواردها، كما تعانى من ضعف وتراجع هذه الموارد والايرادات لنفس الأسباب المتعلقة بالحروب والصراعات المحيطة بها والمتاخمة لحدودها البرية والبحرية.
- تراجع إيرادات قناة السويس بقيمة ٦ مليارات دولار وانخفاض عدد السفن بنسبة ٦٠٪
- السياحة لم تحقق الارتفاع المتوقع واختفاء فرص زيادة الإيرادات
بحسب تصريحات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خسرت مصر ٦ مليارات دولار بسبب تراجع عدد السفن العابرة لقناة السويس بنسبة ٦٠٪ على مدار ١٢ شهراً، بسبب الصواريخ التي أطلقتها جماعة الحوثيين في اليمن على بعض السفن العابرة بزعم أنها تستهدف اسرائيل وتهدف إلى نصرة أهالى غزة، فيما يؤكد المحللون أن إسرائيل نفسها لم تتأثر بهذه الهجمات، حيث لم تتوقف عملية نقل البضائع إليها عبر ما يسمى ممر التنمية، ولكن المتضرر الوحيد هو مصر، التى فقدت أيضاً أى فرص لزيادة إيرادات القناة خاصةً في ظل تراجع أسعار النفط وتراجع الطلب على الوقود العربى بسبب ضعف النمو الاقتصادي في الصين وارتفاع مخزونات النفط في الولايات المتحدة الأمريكية التى تسعى دائماً لتحويل ذهب العرب إلى تراب، ومع تراجع أسعار النفط تتراجع إيرادات تصديره عبر قناة السويس وتكريره في معامل التكرير المصرية، حيث تراجع متوسط استهلاك النفط العالمي بما يقل عن ٢٠٠ ألف برميل يوميا عن توقعات البنك الدولي، علما بأن إيران تعد ثالث أكبر منتج للبترول في منظمة أوبك وتسهم توترات العلاقات بينها وبين العالم في مزيد من الاضطرابات في هذا السوق، وأدى هذا التوتر إلى تراجع الصادرات النفطية العربية بشكل عام، ما انعكس سلبا على إيرادات مصر من الصادرات النفطية التى هى جزء من إيرادات قناة السويس.
وإذا كانت إيرادات القناة تحتل المركز الاول في قائمة مصادر النقد الأجنبي فإن عوائد السياحة تأتى بعدها ولأن السياحة تعتمد بشكل كبير على شواطئ سيناء والبحر الأحمر كان من الطبيعي أن تتراجع ويتم إلغاء الحجوزات خاصةً حجوزات رأس السنة الحالية التى حلت في أعقاب اندلاع أزمة غزة أكتوبر ٢٣، وبالرغم من تراجع إيرادات السياحة مطلع العام الجارى ولكنها عادت إلى الارتفاع بشكل طفيف، وبالرغم من أنها ارتفعت بنسبة ٥.٥ ٪ مقارنة بنفس الفترة من العام السابق ولكن كان لديها فرص كبيرة لتكون الإيرادات أقوى من ذلك ولكن ليس في الإمكان افضل مما كان.
تراجع صادرات الغاز الطبيعي والتحول إلى الاستيراد
- الصادرات تراجعت بنسبة ٧٠.٤٪ لتسجل ٢.٣ مليار دولار مقارنة بـ ٧.٣ مليار دولار
- تراجع إجمالى صادرات دول المنطقة من الغاز المسال يؤثر على إيرادات منصات التسييل في ادكو ودمياط
احتفلت مصر بتدفق الغاز الطبيعي من حقول منطقة سواحل شرق البحر المتوسط، وكان لديها فرص كبيرة لتحل محل روسيا وأوكرانيا بعد توقف سلاسل الإمداد على خلفية الحرب بين الدولتين، وبالفعل تم إعادة تنشيط وتشغيل منصات تسييل الغاز الطبيعي المصرية في ادكو ودمياط بعد استيراد الغاز الطبيعي الخام من دول المنطقة وتسييله ثم تصديره عبر قناة السويس، ولكن جاءت الحروب لتشتعل في اسرائيل وغزة ولبنان ما أدى إلى توقف التنقيب عن الغاز الطبيعي بالتزامن مع توقف تصدير الغاز الإسرائيلي واللبناني الخام إلى مصر بسبب الحرب.
وبالأرقام كشف تقرير ( مستجدات أسواق الغاز المسال العربية والعالمية) عن تراجع صادرات مصر من الغاز المسال إلى ٠.٥٤٠ مليون طن مقابل ٢.٧٤ مليون طن خلال نفس الفترة من العام السابق، وفي المقابل ارتفع استهلاك مصر من الغاز في توليد الكهرباء لحل مشكلة انقطاع الكهرباء ما أدى إلى تحول البلاد إلى الاستيراد.
أما عن الخسائر المالية لهذا الأمر فقد تجاوزت ال ٥ مليار دولار، حيث تراجعت بنسبة ٧٠.٤٪ لتسجل ٢.٣ مليار دولار بعد أن كانت قد وصلت إلى ٧.٩ مليار دولار، كما تراجع إجمالى صادرات الدول العربية من الغاز الطبيعي بنسبة ١.٥٪ ما أثر سلباً على المنصات وموانئ التصدير المصرية.
- ارتفاع معدل التضخم وزيادة أسعار جميع السلع والخدمات
- قفزات الدولار مقابل انهيار الجنيه بسبب التوترات الجيوسياسية وضغوط صندوق النقد الدولي
- عجز الموازنة بلغ ٥٠٥ مليارات جنيه بما يزيد عن ١٠ مليار دولار
- تخارج الأجانب بنحو ٤ مليار دولار بنهاية العام المالي الماضى
- ارتفاع المبيعات فى أذون الخزانة لتتجاوز 297 مليون دولار
في ظل هذه التوترات لجأ البنك الفيدرالي الأمريكي إلى رفع سعر الفائدة على الدولار لترتفع قيمته بشكل جنوني، ويحافظ على مكانته في مواجهة جاذبية الذهب كملاذ آمن وقت الحروب، ولكن يظل الدولار متفوقاً على سبائك الذهب التى لا تحقق عائد ادخارى.
تلك القفزات الدولارية لم تكشف عن قوة الدولار بقدر ما كشفت ضعف الجنيه المصري، ناهيك عن مطالبات وضغوط صندوق النقد الدولي للحكومة المصرية بأن يكون سعر صرف الدولار أكثر مرونة مع ظهور سوق سوداء وتداول الدولار بأسعار خارج إطار أسعار البنوك، ما أدى إلى إصدار الدولة قرار تحرير سعر الصرف في مارس ٢٠٤، الذى يعرف إعلاميا بتعويم الجنيه.
ولأن الأموال الساخنة دائما ما تهرب في مثل هذه الظروف ارتفعت مبيعات الأجانب في أذون الخزانة المصرية لتتجاوز ٢٩٧ مليون دولار، فيما بلغت إجمالى قيمة تخارج الأجانب نحو ٤ مليار دولار في نهاية العام المالى الماضي.
وعلى خلفية ذلك من الطبيعي أن ترتفع معدلات التضخم لتصل إلى ٢٦.٢٪ في شهر أغسطس الماضي، مقارنة ب ٢٥.٧٪ في شهر يوليو الذي سبقه.
ولأن المواطن العادي لا يهتم بأرقام ونسب التضخم ولا حتى النمو بقدر ما يهمه ارتفاع أسعار السلع والخدمات، رصدت التقارير ارتفاع أسعار عدد كبير من السلع خاصةً بعد أن قلصت الحكومة الدعم على بعض السلع والخدمات المدعومة والغته عن بعضها الآخر، في محاولة للسيطرة على عجز الموازنة الذى بلغ ٥٠٥ مليارات جنيه أى حوالى ١٠ مليار دولار.
وفيما يتعلق بأسعار السلع ارتفعت أسعار الخضروات بنسبة ١٤.٣٪ بينما ارتفعت قيمة تذاكر النقل بنسبة ١٥٪ خاصةً مع ارتفاع أسعار البنزين وبدأ العام الدراسي الجديد، الذي انعكس أيضاً على أسعار منتجات الألبان والبيض لترتفع أسعارها بنسب تصل إلى ٣٪، وبنفس النسبة ارتفعت أسعار الأسماك والدواجن في بعض المحافظات والمدن المصرية.
خطة الدولة للتعامل مع الأزمات الاقتصادية وتداعيات الأحداث فى المنطقة
- تشمل إصدار سندات دولية بـ3 مليارات دولار للحد من التضخم
كشف تقرير صادر مؤخرًا عن شبكة سى إن إن الأمريكية، حجم الأضرار التى وقعت على مصر، موضحًا أن زيادة التوترات في المنطقة تسببت في التأثير على معنويات المستثمرين، حيث شهدت مصر خروج الأجانب من استثمارات أدوات الدين المحلية مع زيادة حدة هذه التوترات، وفقاً لما تقوله رئيسة إدارة المخاطر بمنطقة الشرق الأوسط في فيتش سوليوشنز.
وأوضح التقرير أن هذه التبعات زادت الطلب على الدولار الأميركي في السوق المصرية ما ضغط على سعر صرف الدولار مقابل الجنيه، وأسهم ارتفاع سعر الدولار مقابل الجنيه ووجود سعرين للعملة الصعبة في مصر إلى قفزة كبيرة في معدلات التضخم، قبل أن تقرر مصر تحرير سعر الصرف في مارس الماضي 2024، ليفقد الجنيه نحو نصف قيمته.
وبحسب التقرير الأمريكى فإن معدل التضخم في مصر لا يزال مرتفعاً ويظل عرضة للعوامل الخارجية، بما في ذلك زيادة تكاليف الغذاء والنفط التي من شأنها أن تؤثر على عجز الموازنة الحكومية.
وعن خطة الدولة لمواجهة هذه الضغوط قال رئيس الوزراء المصرى الدكتور مصطفى مدبولى مؤخرًا إن الحكومة المصرية تعمل على تأمين مخزون استراتيجي من الاحتياجات الأساسية للمواطنين، في ظل حالة عدم اليقين التي تعيشها المنطقة.
وفى سياق متصل كشفت وكالة رويترز عن أن الهيئة العامة للسلع التموينية في مصر اتفقت على واحدة من كبرى صفقاتها المباشرة على الإطلاق لتوريد القمح شهرياً من نوفمبر إلى أبريل، بإجمالي يصل إلى 3.12 مليون طن خلال تلك الفترة.
أما عن تراجع قيمة العملة المحلية فى مواجهة الدولار، فما زالت المخاوف من تفاقم التوترات في المنطقة والتى من شأنها أن تمثل ضغطاً أكبر على الجنيه المصري مقابل الدولار، الذى ظل مستقرًا منذ منتصف أغسطس الماضي، وبقي سعر الصرف حوالى 48.8 جنيه.
وللحفاظ على هذا الاستقرار أو فى محاولة لرفع قيمة الجنيه مقابل الدولار، كشف التقرير إن مصر تخطط لإصدار سندات على المدى القصير، ومع ازدياد المخاطر الجيوسياسية الإقليمية من الممكن أن يتضاءل الطلب المؤسسي عليها، على الرغم من أن البنك المركزي المصري ووزارة المالية يفعلان الشيء الصحيح لتحسين المالية الحكومية، وتعزيز الاستثمار الأجنبي المباشر واستخدام السياسة النقدية للحد من التضخم.
ومن أجل تحقيق هذه الأهداف تخطط مصر لإصدار سندات دولية بنحو 3 مليارات دولار خلال العام المالي الجاري، بحسب تصريحات وزير المالية المصري.