 
 
فى الأسابيع الأخيرة شهدت بعض السفارات المصرية في الخارج اعتداءات من قبل متظاهرين، وذلك على خلفية حملات دعائية مضللة تزعم أن مصر أغلقت معبر رفح في وجه المساعدات الإنسانية على خلاف الحقيقة؛ حيث أغلقت قوات الاحتلال الإسرائيلي معبر رفح من الجانب الفلسطيني منذ بدء العدوان على غزة.
تُثير هذه الأحداث تساؤلات مشروعة حول مدى التزام الدول المضيفة بالتزاماتها الدولية، وبوجه خاص ما تفرضه اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961 من واجب على الدولة المعتمدة لديها البعثة، يتمثل في اتخاذ جميع التدابير المناسبة لحماية مباني البعثة الدبلوماسية ضد أي اقتحام أو ضرر، ومنع أي إخلال بأمن البعثة.
هذه الحقائق رصدتها دراسة مهمة للغاية صدرت مؤخرا بعنوان (الاعتداء على السفارات المصرية ومسئولية الدولة المضيفة ) وأعدها الباحث د. محمد حربي الحاصل على درجة الدكتوراة فى القانون العام .
الدراسة أكدت أن استمرار هذه التعديات دون مساءلة صارمة لا يهدد أمن البعثات فقط، بل يقوّض أحد أهم أعمدة النظام الدولي، وهو مبدأ الحصانة والحماية الدبلوماسية، فحماية البعثات الدبلوماسية تقع على عاتق الدولة المضيفة بموجب ما أقرّه القانون الدولي واتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية، فاستمرار التعديات على السفارات المصرية يسيء لصورة الدولة المضيفة ويُعد فشلًا من الدولة المضيفة في أداء أحد أبسط واجباتها الدولية، وهي حماية البعثات الدبلوماسية ويثير الشك نحو احترامها لأبسط قواعد الانضباط الدولي.
الحصانة الدولية للبعثات الدبلوماسية
ممارسة الدولة للعلاقات الدبلوماسية هي من أقدم مظاهر سيادة الدولة في ممارسة شئونها الخارجية مع غيرها من دول المجتمع الدولي، ومقر البعثة الدبلوماسية هو مكان سفارة الدولة ويعتبر من الأمور المهمة لكل من الدولة الموفدة والدولة المضيفة، وقد فرض القانون الدولي حماية خاصة للبعثة الدبلوماسية ومقارها؛ حيث تناولت اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية 1961 القواعد المنظمة لتلك الحصانات؛ حيث نصت (المادة 22) من الاتفاقية على:
تكون حرمة البعثة مصونة ولا يجوز لمأموري الدولة المعتمدة لديها دخولها إلا بموافقة رئيس البعثة.
– يترتب على الدولة المعتمدة لديها التزام خاص باتخاذ جميع التدابير المناسبة لحماية مقر البعثة من أي اقتحام أو ضرر ومنع أي إخلال بأمن البعثة أو مساس بكرامتها.
فالأماكن الخاصة بالبعثة حرمة مصونة، فلا يجوز دخولها ما لم يكن ذلك بموافقة رئيس البعثة وعلى الدول المضيفة التزام خاص باتخاذ كافة الإجراءات الملائمة لمنع اقتحام مقار السفارات أو الإضرار بها أو الإخلال بأمن البعثة أو الانتقاص من هيبتها.
كذلك نصت المادة (29) من الاتفاقية أن تكون حرمة المبعوث الدبلوماسي مصونة ولا يجوز إخضاعه لأي صورة اعتقال أو احتجاز، ويجب على الدولة المعتمد لديها معاملته بالاحترام اللائق واتخاذ جميع التدابير المناسبة لمنع أي اعتداء على شخصه أو حريته أو كرامته.
وحرمة مقر البعثة يظل قائمًا حتى في حالة قطع العلاقات الدبلوماسية أو توترها بين الدولة الموفدة والدولة المضيفة وفي كل الأحوال تقع المسئولية على الدولة المضيفة لحماية السفارات على أراضيها بموجب اتفاقية فيينا.
كذلك ينص ميثاق الأمم المتحدة المادة (1/2) والخاص بإنماء العلاقات الودية بين الأمم وكذلك اتخاذ التدابير الملائمة لتعزيز السلم العام.
ونصت المادة (2/4) يمتنع أعضاء الهيئة جميعًا في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأي دولة.
فالتخاذل عن حماية مقار البعثات والسفارات المصرية في أي دولة مضيفة هو تقصير من الدولة في اتخاذ التدابير المناسبة لذلك والاشتراك في ذلك التعدي بالامتناع عن الحماية.
احتجاجات ومحاولات التعدي على مقرات السفارات
شهدت السفارات المصرية احتجاجات ومحاولات التعدي على مقر السفارات في عدة دول حول العالم ومنها هولندا؛ حيث قام أحد الشباب بإغلاق مقر السفارة المصرية، زاعمًا أن هذا مماثل لما تفعله مصر بإغلاق معبر رفح.
وتبعته احتجاجات أمام سفارات مصر بعدة دول عدة؛ منها لبنان، وسوريا، والدنمارك، وكندا، وتونس، وليبيا، وجنوب أفريقيا، ولندن وباريس وبروكسل وتركيا، ووصف البعض ذلك بحصار السفارات للمطالبة بفتح المعابر الإنسانية لغزة.
حيث شهدت العاصمة فيينا احتجاجًا داخل السفارة المصرية ومحاولة تعطيل العمل بها،
كذلك تم إغلاق بوابات السفارة ببروكسل على العاملين بها، وفي تركيا حاول بعض الأشخاص وضع أقفال على أبواب السفارة، وفي كندا هاجم متطرفون يهود السفارة المصرية للتنديد بالحرب على غزة.
وشهدت العاصمة الجنوب أفريقية بريتوريا تظاهرًا أمام السفارة المصرية، نظمها ما يعرف باتحاد الجاليات الإسلامية في جنوب أفريقيا دون معرفة أي صفة أو أهداف لذلك الاتحاد، وفي لبنان دارت مواجهات بين معتصمين أمام السفارة المصرية وبين عناصر الجيش الموكلة بحماية أمن السفارة، بعد محاولة عدد من المحتجين اجتياز الشريط الشائك والدخول إلى حرم مبنى السفارة.
ومن أكثر المشاهد عبثية هو التظاهر أمام السفارة المصرية في تل أبيب أي في الدولة المعتدية ذاتها وكأن من يتظاهر لا يرى المعتدي ويحاول إبعاد الأنظار عن المعتدي نفسه وهي دولة الاحتلال الإسرائيلي، فكان من الأجدى التظاهر في تل أبيب للضغط على الحكومة الإسرائيلية لفك الحصار عن غزة والموافقة على وقف إطلاق النار بعد الأوضاع الكارثية بغزة.
وهو ما ردت عليه وزارة الخارجية المصرية بأن معبر رفح مغلق من الجانب الفلسطيني ومفتوح من الجانب المصري، وما يعرقل دخول المساعدات هي قوات الاحتلال الإسرائيلي لسيطرتها على معبر رفح من الجانب الفلسطيني واستهدافه أكثر من مرة منذ بدء العدوان على غزة.
وما ذكرناه من قبل لا هو موقف إنساني ولا هو تظاهر مشروع، ومما يؤكد أنها حملات ممنهجة أنها بالأسلوب نفسه وفي وقت واحد، فهناك فرق كبير بين التعبير عن الرأي والتعدي على البعثات الدبلوماسية ومقرها، خاصة إذا شاب ذلك محاولة اقتحام البعثات الدبلوماسية وتعطيل العمل بها، ويثبت أيضًا إخفاق بعض الدول المضيفة في ضمان الحماية الكافية للبعثات الدبلوماسية المصرية، بما يتعارض مع نصوص اتفاقية فيينا 1961 ويلقي عليها مسئولية قانونية مباشرة.
كيف تتصدى محكمة العدل الدولية لهذه الإعتداءات ؟!!
التعدي على سفارة الدولة المصرية يعني إخلال الدولة المضيفة بواجب الحماية وتُصبح الدولة المضيفة مسئولة دوليًا إذا قصّرت في حماية السفارة أو سمحت بتحركات عدائية دون تدخل فاعل، فالمسئولية الدولية للدولة المضيفة لا تُنتفى بحجة أن الأفعال ارتكبها أفراد غير رسميين أو متظاهرين؛ إذ أن واجب الدولة يتعدى مجرد الامتناع عن التدخل في الشئون الدبلوماسية إلى واجب الحماية الفعلية، والقبض على الجناة وتقديمهم للمحاكمة.
كما أكدت ذلك محكمة العدل الدولية في عدد من السوابق،
ومنها قضية الولايات المتحدة الأمريكية ضد إيران 1980 بشأن اقتحام السفارة الأمريكية بطهران؛ حيث اعتبرت المحكمة أن اقتحام السفارة الأمريكية بطهران يمثل انتهاكًا لالتزاماتها الدولية بموجب اتفاقيات فيينا والقانون الدولي العام، وألزمت إيران بإطلاق سراح الرهائن، وعودة المبنى وتقديم تعويضات.
وهو ما يعد نموذجًا قانونيًا راسخًا على أن اقتحام مباني البعثات الدبلوماسية واحتجاز موظفيها ويمثل انتهاكًا واضحًا للقانون الدولي.
مما يعطي للدولة المصرية الحق في اتخاذ إجراءات قانونية ودبلوماسية متدرجة ضد الدول المضيفة في حالة نكولها عن حماية مقر السفارة المصرية، بداية من التقدم بمذكرة احتجاج دبلوماسي رسمي وطلب اعتذار رسمي من الدول المضيفة التي حدث التعدي علي السفارات المصرية فيها وتقديم من قام بتلك الأفعال إلى المحاكمة،
ثم اللجوء للجمعية العامة للأمم المتحدة ولمحكمة العدل الدولية لحماية بعثاتها وضمان احترام سيادتها وحقوقها وفق ما يكفله القانون الدولي وضمان عدم إفلات المعتدين من المساءلة الدولية، فاتفاقية فيينا 1961 تعتبر من العرف الدولي الذي لا يجوز الاتفاق على مخالفته.
وصولًا إلى الاحتجاج أمام مجلس الأمن الدولي ضد الدول المضيفة إذا كان التعدي يشكل تهديدًا للسلم والأمن، كون السفارة المصرية لها سيادة وتعتبر جزءًا من إقليم الدولة ولا يجوز المساس به أو التعدي عليه.
وزارة الخارجية تدرس عدد من الإجراءات أولها تطبيق مبدأ المعاملة بالمثل
قالت السفيرة، سها جندي، وزيرة الدولة للهجرة وشؤون المصريين بالخارج السابقة، إن "حماية السفارات الأجنبية على أراضي الدولة المستضيفة هي مسؤولية أولية لهذه الدولة، وأي تقصير في توفير تلك الحماية يمثل إخفاقاً للدولة في الالتزام بشروط الحماية الدولية المنصوص عليها في القانون الدولي".
وأضافت جندي: "مصر تأخذ هذه المسؤولية بكل جدية فيما يخص السفارات المعتمدة لديها، فنجد أن الدولة تقدم حماية أمنية كبرى وحراسة من قبل وزارة الداخلية لجميع السفارات على الأراضي المصرية".
وتابعت: "تختلف قوة وكثافة الحراسة للسفارات وفقاً لحجم وتقدير ما يمكن أن تتعرض له تلك الدولة ومصالحها في الخارج من تهديدات".
وتابعت الوزيرة السابقة: "في حالة ما إذا تم الاعتداء على السفارات ولم توفر الدولة المعتمدة الحماية اللازمة، هناك عدة إجراءات يمكن اتخاذها، سواء بشكل ثنائي أو من خلال الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، بما في ذلك التشاور السياسي مع الدولة المضيفة لرفع التأمين والحراسة، ثم التصعيد بتقديم احتجاج رسمي للدولة المضيفة باعتبار عدم التأمين اللازم موقفا سياسيا غير مبرر، وطلب اتخاذ تدابير فورية لضمان أمن السفارة وموظفيها".
وأضافت الوزيرة السابقة: "في حالة عدم الاستجابة، يمكن تطبيق المعاملة بالمثل مع التمثيل الدبلوماسي لتلك الدولة على أراضي الدولة المشتكية، أو تصعيد الأمر وتقديم تقرير احتجاجي للأمم المتحدة ومؤسساتها المتخصصة المعنية، بشأن خرق الدولة المضيفة لاتفاقية فيينا المنظمة للعلاقات الدبلوماسية".
واستكملت السفيرة سها جندي: "وفقاً للقرار السياسي، يمكن التصعيد حسبما تراه الحكومة الموفدة بناء على مدى استجابة الدولة المستضيفة لشواغلها. ويكون التصعيد تدريجياً، وقد يصل إلى تخفيض مستوى التمثيل الدبلوماسي أو حتى قطع العلاقات الدبلوماسية إذا رأت الدولة الموفدة أن رفض الدولة المستضيفة لتأمين سفارتها يشكل موقفاً سياسياً معادياً لها".
وأضافت: "وفقاً لمعلوماتي، فإن وزارة الخارجية المصرية لديها خطة للتحرك في هذا الاتجاه، ويتم حالياً دراسة اتخاذ عدد من الإجراءات، أولها تطبيق مبدأ المعاملة بالمثل".
أستاذ قانون دولى : تخفيض مستوى الحماية المقدمة لسفارة الدولة المعتدية في القاهرة وإلغاء التأمين الدبلوماسي بالكامل
قال الدكتور محمد محمود مهران، أستاذ القانون الدولي العام والمحاضر بجامعة الإسكندرية، : "مصر تملك حقوقاً واضحة في القانون الدولي للرد على أية اعتداءات تستهدف سفاراتها في الخارج. فمبدأ المعاملة بالمثل يعطي الحكومة المصرية الحق في اتخاذ إجراءات مماثلة ضد الدولة التي تفشل في حماية البعثات الدبلوماسية المصرية على أراضيها. حيث تلزم اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961 جميع الدول بحماية البعثات الدبلوماسية الأجنبية، وأية دولة تخل بهذا الالتزام تتحمل المسؤولية الدولية الكاملة عن الأضرار التي تلحق بالبعثة الدبلوماسية".
وتابع أستاذ القانون الدولي: "يتم ذلك من خلال تخفيض مستوى الحماية المقدمة لسفارة الدولة المعتدية في القاهرة، أو حتى إلغاء التأمين الدبلوماسي بالكامل إذا لم تقم تلك الدولة بتوفير حماية مماثلة للبعثات المصرية. واجبات الدول في تأمين السفارات الأجنبية على أراضيها ليست مجرد التزام أخلاقي، بل التزام قانوني صريح ينص عليه القانون الدولي. ويشمل هذا الالتزام توفير الحماية الأمنية الكافية، ومنع أية اعتداءات أو تظاهرات عدائية قرب مباني السفارات، والتحقيق الفوري في أية حوادث تستهدف البعثات الدبلوماسية ومحاسبة المسؤولين عنها".
وأوضح الدكتور مهران أن الدولة المضيفة تتحمل مسؤولية مطلقة عن سلامة البعثات الدبلوماسية حتى لو كان الاعتداء من جهات غير رسمية، مشيراً إلى أن مصر طبقت هذا المبدأ عملياً في عدة مناسبات سابقة عندما اتخذت إجراءات متدرجة ضد دول فشلت في حماية مصالحها الدبلوماسية.
يشار إلى أن عناصر وقيادات إخوانية كانت قد قامت بتظاهرات لمحاصرة السفارات المصرية في بعض دول أوروبا، للمطالبة بالضغط على مصر لفتح معبر رفح. كما تظاهر، الخميس الماضي، قيادات وعناصر إخوانية فلسطينية أمام سفارة مصر بالعاصمة الإسرائيلية تل أبيب، مطالبين القاهرة بفتح المعبر لإدخال المساعدات الإنسانية لأهالي قطاع غزة.
وجاءت الدعوة إلى المظاهرة من جانب "اتحاد أئمة المساجد في الداخل الفلسطيني"، حيث تجمع ما بين 200 و300 شخص على بُعد نحو 50 متراً من مقر السفارة المصرية في تل أبيب، وتحديداً في محيط ميدان "بازل". ورفعوا العلم الإسرائيلي خلال التظاهرة، احتجاجاً على ما وصفوه بـ"الحصار المصري على غزة".
وتصدر الغضب من تصرفات القيادات الإخوانية وتظاهرها أمام السفارة المصرية في تل أبيب مواقع التواصل، حيث عبر المغردون عن رفضهم لاحتشاد التظاهرات أمام سفارة مصر.
