مع افتتاح المتحف المصري الكبير وبدء عرض مجموعة من أعظم كنوز الحضارة المصرية القديمة، عاد الجدل مجددًا حول الآثار المصرية المنتشرة في متاحف العالم، والتي تمثل جزءًا لا يتجزأ من هوية مصر التاريخية.
وكان على رأس تلك القائمة من القطع الأثرية التي يطالب المصريون بعودتها رأس الملكة نفرتيتي المعروضة في متحف برلين، وكانت هناك تساؤلات مستمرة لا تنتهي حول كيفية خروجها من مصر ولماذا لم تعُد إلى موطنها الأصلي حتى الآن؟
وحول تفاصيل القطعة الغالية التي تعد أيقونة الآثار المصرية وكيفية خروجها، يقول الدكتور أحمد بدران، أستاذ الآثار المصرية بجامعة القاهرة إن الملكة نفرتيتي هي زوجة الملك إخناتون، أحد أبرز ملوك الأسرة الثامنة عشرة، وجسدت ملامح الجمال والقوة والدهاء السياسي في آن واحد، لتصبح رمزًا خالدًا للمرأة المصرية في التاريخ الإنساني.
ويشير إلى أن التمثال النصفي لنفرتيتي يبلغ ارتفاعه نحو 47 سم، أي ما يقارب نصف المتر، ويزن حوالي 20 كيلوغرامًا، كما يُظهر التمثال رأس الملكة بكامل أناقتها، وبرقبتها الطويلة وجزء من الكتفين والصدر، مرتدية تاجها المميز، مضيفا أن هذا التاج مصنوع بدقة بالغة من الحجر الجيري المغطى بطبقة من الجص الملون، ما يمنحه طابعًا واقعيًا آسرًا لا مثيل له بين تماثيل الملكات في العالم القديم.
وأضاف أنه تم العثور على الرأس في عام 1912 أثناء أعمال التنقيب الأثري التي أجرتها البعثة الألمانية في منطقة تل العمارنة بمحافظة المنيا، بقيادة عالم المصريات لودفيغ بورخاردت، موضحا أن القوانين الأثرية في ذلك الوقت كانت تتيح تقسيم القطع الأثرية المكتشفة بين البعثة الأجنبية والحكومة المصرية، باستثناء الآثار الملكية، التي كان يُمنع تمامًا خروجها من البلاد.
وكشف بدران أن العالم الألماني بورخاردت كان مدركًا لقيمة الاكتشاف الفريدة لذلك ادّعى أن الرأس تخص أميرة مجهولة، وليست لملكة مصرية، وأنها مصنوعة من الجبس وليست من حجر نفيس، بهدف إخفاء حقيقتها عن السلطات المصرية.
وأشار إلى أن بورخاردت قام بإخفاء الرأس عن أعين مسؤولي الآثار المصريين، ووضعها في مقر البعثة الألمانية انتظارًا لفرصة شحنها إلى ألمانيا، وبعد فترة قصيرة، تم تهريب الرأس بالفعل خارج البلاد، وهناك أوصى بعدم عرضها لمدة عشر سنوات حتى تهدأ الأوضاع.
وتابع أن الرأس عرض لاحقًا في متحف برلين، ليصبح أحد أعظم مقتنيات المتحف وأشهر رموزه على الإطلاق، مشيرا إلى أنه وخلال الحرب العالمية الثانية، تعرّض رأس نفرتيتي للتنقّل بين عدة أماكن سرية داخل ألمانيا لحمايتها من القصف، حتى وصلت في النهاية إلى مخبأ هتلر.
وأوضح أنه تردد أن هتلر أُعجب بجمال ملامح الرأس إلى حد الهوس واحتفظ به في مكتبته الخاصة حتى وفاته، ومنذ ذلك الوقت، أصبح جزءًا من هوية العاصمة الألمانية برلين، حيث وُضعت صورته على الطوابع البريدية الرسمية، واتخذتها بعض الأحزاب السياسية شعارًا لها، لتتحول من قطعة فنية مصرية إلى رمز ثقافي ألماني.
ويختتم الدكتور بدران حديثه بالإشارة إلى أن السلطات المصرية أرسلت على مدار العقود الماضية أكثر من وفد رسمي إلى ألمانيا للمطالبة باستعادة الرأس، مؤكدين أنها خرجت من البلاد بطريقة غير شرعية، إلا أن جميع هذه المساعي قوبلت بالرفض.
وقال إنه ومنذ ذلك الحين استمرت رأس الملكة نفرتيتي في الخارج، ورمزًا لقضية استرداد الآثار التي لا تزال مفتوحة بين القاهرة وبرلين منذ أكثر من قرن.
من جانبه قال أحمد غازي المدير المسؤول في المركز العربي الأوروبي للقانون الدولي إن رأس الملكة نفرتيتي أصبحت رمزًا ثقافيًا وهوية للألمان بعد بقائه في برلين لأكثر من 113 عامًا، موضحا أن السلطات المصرية اتخذت العديد من الإجراءات القانونية لاستعادة الرأس إلى موطنها الأصلي، إلا أن تمسك الجانب الألماني بالتمثال ومنع مصر من استعادته حتى الآن.
وأضاف غازي أن هناك جهودًا ومسارات دولية مستمرة لاستعادة التمثال، سواء عبر الطرق الدبلوماسية بالتعاون مع منظمة اليونسكو، أو من خلال التحكيم الدولي، الذي يبدأ بتقديم طلب رسمي لاسترداد الرأس، وفي حال رفض ألمانيا، يمكن اللجوء إلى محكمة دولية مشتركة بين البلدين تُقدَّم خلالها الوثائق التي تثبت أحقية مصر وخروج التمثال بطرق غير قانونية.
وأشار إلى أن اتفاقية اليونسكو لعام 1970 الخاصة بمنع استيراد وتصدير ونقل ملكية الممتلكات الثقافية بطرق غير مشروعة، لا تنطبق على حالة نفرتيتي لأن خروج التمثال تم قبل صدورها.
وقال إنه ومع ذلك، أنشأت اليونسكو آلية دولية ولجنة خاصة لتعزيز إعادة الممتلكات الثقافية إلى بلدانها الأصلية، تأسست في فرنسا عام 1970 أيضًا، مضيفا أنها تُعد آلية دبلوماسية للنظر في النزاعات الأثرية القديمة السابقة لتاريخ الاتفاقية، حيث ساهمت بالفعل في استعادة العديد من القطع الأثرية إلى دولها.
