لم أجد فى قواميس اللغة مفردات تتلاءم وتليق بوصف أبطال المقاومة فى الأراضى المحتلة، وتسرد قصص صمودهم على الأرض فى مواجهة غاصب محتل، ومدعوم من كل قوى الشر فى العالم، وفى المقابل يعف قلمى أن يصف بدقة، ما يليق من ألفاظ متدنية لحجم الإجرام والإرهاب الذى يمارسه الكيان الصهيونى جهارًا نهارًا، ضد الشعب الفلسطينى فى غزة، فى محاولة منه لاستعادة هيبة وهمية، ذهبت وولت، بعد أن سقطت الأكذوبة تحت أقدام شباب وأبطال المقاومة، الذين كشفوا هشاشة أجهزتهم الأمنية، وأمام هذا السقوط المدوى الذى لم تشهده إسرائيل منذ السادس من أكتوبر 1973، فالزلزال الذى أحدثته كتائب القسام، ينذر بنهاية حتمية لوجود الكيان، ففى إطار محاولاته لإنقاذ ما تبقى له ولجيشه من هيبة مزعومة، ارتكب جرائم حرب، فقد شهد العالم على اتساع الكرة الأرضية بالصوت والصورة وعبر البث المباشر، أبشع الجرائم وأحطها فى تاريخ الحروب والنزاعات العرقية، فهى إن شئنا الدقة، لم تكن عملية عسكرية أو مواجهة بين جيش ومقاتلين من المقاومة، لكن ما جرى فى غزة على مدار أسبوعين، هو جريمة حرب مكتملة الأركان، واستهداف المدنيين من الأطفال والنساء والرجال والمرضى وهدم المبانى، بما يعنى أنها بالفعل حرب إبادة جماعية وتطهير عرقى، لتصفية القضية الفلسطينية، وتحقيق حلم إسرائيل الكبرى، بالتوسع الاستيطانى، بعد طرد وتهجير أصحاب الأرض وهدم بيوتهم، والقضاء على عائلات فلسطينية بالكامل، ومصادرة ممتلكاتهم.
ولم يعد خافيًا على أحد أن الجرائم المتعددة التى ارتكبها جيش الاحتلال بحق المدنيين العزل فى غزة، لم يحرك ساكنًا لدى القوى المهيمنة على القرار الدولى، والتى دءبت على ممارسة البلطجة، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، فجميعهم باركوا وأيدوا بشكل معلن وصريح ممارسات الكيان ضد الأبرياء فى القطاع، بل واعتبروه دفاعًا شرعيًا عن النفس، ما شجع على التمادى، بارتكاب أكبر مجزرة وحشية فى تاريخ الحروب، والتى ستظل وصمة عار على جبين المجتمع الدولى، وهى جريمة قصف المستشفى الأهلى «المعمدانى» فى غزة، والتى راح ضحيتها أكثر من 500 شهيد فى لحظة، وكانت هذه الجريمة البشعة كاشفة وفاضحة لحقيقة النهج الصهيونى، التى دءبت على التنصل من جرائمها، حيث اتهم «نتنياهو،حركة «الجهاد» الفلسطينية بارتكابها، بزعم إطلاق صاروخى خاطئ من مقبرة قريبة من المستشفى، والغريب أن هذه الرواية الهزلية وجدت من يصدقها، ويروجها فى وسائل الإعلام الغربية، بل أخذ بها الرئيس الأمريكى «جو بايدن»، الذى زار «إسرائيل» لدعمها والتضامن معها عبر تبريره لجرائمها، فى واقعة تفقد مزاعم الحياد الأمريكى، وتضرب مصداقية الدولة الأكبر فى العالم، هذا أن تصور البعض أن لديها مصداقية، فقد عبر بايدن عن امتنانه لنجاح إسرائيل فى ارتكابها لمذابحها الوحشية، ونكرر الرقم مرة ومرات، أربعة آلاف شهيد، نصفهم من النساء والأطفال، ونكرر أيضًا إلى جانب عشرات العائلات الفلسطينية بكاملها، فى غارات جوية لا تتوقف بالطائرات والصواريخ والقنابل الأمريكية، وبقوات أمريكية نزلت على الأرض بالآلاف، وبأكبر حشد عسكرى بحرى أمريكى على شواطئ المتوسط، تشارك به عشرات القطع البحرية الحربية، بينها أكبر حاملتى طائرات جيرالد فورد، ودوايت أيزنهاور.
سقط القناع عن قاطنى البيت الأبيض، وسقطت أمريكا فى الوحل، وقد كشفت الأحداث، مشاركة أمريكية مباشرة وخروجها ودعمها اللامحدود من الغرف الخلفية إلى العلن، وتأكيدا لحقيقة تلك العلاقة، فأمريكا هى «إسرائيل».
وربما لم تعد هناك شكوك فى الحقيقة التى لا يستطيع أحد إنكارها، فهى ببساطة صادمة، أن الذى يقتل الفلسطينيين ويقتلنا، هم الأمريكيون والغرب، وأن المذابح الإسرائيلية بالقصف والحصار والتجويع والقتل، هى مذابح غربية بامتياز، ولسنا فى حاجة إلى أدلة بعد الفزع الذى أبدته حكومات الغرب، عقب إذلال المحتلين فى هجوم 7 أكتوبر، وترديد أكاذيب مفضوحة عن قطع رقاب من أطفال إسرائيليين على أيدى المقاومة، ثم التأييد الضمنى والعلنى لتدمير غزة بالكامل.
الحقيقة الدامغة التى يجب أن يعرفها الكافة أن «إسرائيل» كيان وظيفى باعتبارها أكبر قاعدة عسكرية أمريكية فى العالم، وحسب تعبير بايدن الذى قاله بلا خجل «لو لم تكن إسرائيل موجودة لاخترعناها «، فهو وإدارته يؤيدون عمليات التدمير فى غزة لتكرار سيناريو النكبة الأولى عام 1948، وبذات الطريقة، الهادفة التخويف بمذابح همجية، لإجبارهم على النزوح إلى أقطار عربية مجاورة، وتحديداً شبه جزيرة «سيناء»، وهذه خطة معدة سلفا، وهو الأمر الذى جعل سيناء تعود إلى الواجهة فى تفكير الصهاينة والأمريكان بأن تكون، ليس كوطن للإسرائيليين، بل كوطن بديل للفلسطينيين الذين سيجرى طردهم، وهى الخطة التى عرفت باسم الجنرال «جيئورا أيلاند» الرئيس الأسبق لمجلس الأمن القومى بدولة الكيان تقوم على اقتطاع 720 كيلومترا مربعا من أراضى سيناء ينتقل إليها الفلسطينيون من «غزة»، مقابل منح مصر مساحة مماثلة من صحراء النقب، وقد عرضت خطة «أيلاند» على الإدارة الأمريكية أثناء رئاسة «باراك أوباما»، وجرت ضغوط مكثفة أواخر أيام حكم الرئيس الأسبق «مبارك»، الذى لم يقبل حتى مجرد فتح نقاش فيها، حيث كان هدفها تصفية القضية الفلسطينية، بنزع وجود الشعب الفلسطينى من فوق أرضه التاريخية، وطرد سكان «غزة» إلى مصر، وسكان الضفة الغربية إلى شرق نهر الأردن، وطبيعى أن يرفضها الشعب الفلسطينى، فوجوده على أرضه هو الضامن لبقاء قضيته، وكان بديهيا أيضًا، أن ترفضها الشعوب العربية، وحتى الحكام فى مصر والأردن، رغم الضغوط الأمريكية والغربية، وباستثمار أدوار لأطراف مريبة فى المنطقة العربية، وكانت الحرب الأخيرة وراء سقوط الأقنعة كلها عن الوجوه القبيحة، وربما لا يعلم الكثيرون، دلالات ما قاله الرئيس عبدالفتاح السيسى، عندما أراد ببراعة أن يضعهم فى مأزق بالحديث عن صحراء النقب أن كان تهجير مؤقت.
وحاول «بايدن» أن يتظاهر بوساطة للتهدئة فى إطار الخطة المعدة، بالدعوة لقمة رباعية فى الأردن، مصر، الأردن، أمريكا، السلطة الفلسطينية، ثم تطورت الأمور إلى إلغاء الاجتماع، على أثر غضب عربى واسع جراء مجزرة المستشفى «المعمدانى»، وافتضاح المشاركة الأمريكية المباشرة فى جرائم ومذابح يندى لها جبين الإنسانية.
ثمة حقائق لا ينبغى أبدًا القفز عليها أو تجاهلها أو الخوف من التعبير عنها بحال من الأحوال، مفادها أن ما يجرى فى الأراضى الفلسطينية المحتلة، أسقط عمليًا المصطلحات التى أقرتها مواثيق الأمم المتحدة، وكشف الوجه القبيح لازدواجية المعايير، وتطويع القانون الدولى وفق هوى الطرف الأقوى، فقد بات القانون الدولى مجرد عبارة، يتم استدعاؤها، للتشدق بها عندما تقتضى الضرورة تحقيق مطامع ومصالح القوى العظمى، فلم يتم الأخذ به للحد من جرائم جيش الاحتلال التى تدهس كل أخلاقيات الحروب، بل يتم تبرير الجرائم على أنها دفاع عن النفس، وفى ذات الوقت، يتم اتهام المقاومة المشروعة التى تدافع لتحرير أرضها أو الرد على الاعتداءات المتكررة على المدنيين، باعتبارها جرائم إرهابية تستوجب عقاب الفصائل، والمدهش رغم دراية العالم بكل ما يجرى، يدعى الاحتلال أنه يمارس حق الدفاع الشرعى عن النفس، بينما هو جيش احتلال ولا يتوقف عن سفك الدماء والحصار والتجويع.
علناّ، تمنع إسرائيل المياه والكهرباء والغذاء وتحول دون وصول المساعدات الإنسانية إلى أكثر من مليونى فلسطينى فى غزة، وتتنصل من مسئوليتها كسلطة احتلال يلزمها القانون الدولى، وطبعًا، الذى لا تعترف به، بالحفاظ على الأرواح والممتلكات.
إن الاحتلال يمارس ضد الشعب الفلسطينى، ومنذ عقود طويلة كافة صنوف القتل والتشريد والاضطهاد والإبادة الجماعية، والتطهير العرقى فى إطار العنصرية البغيضة، وتنتهك حقوقه فى الحياة والأمن وتقرير المصير بالإرهاب الممنهج.
وشئنا أم أبينا، ستظل المشاهد المروعة فى غزة عالقة فى الأذهان وحاضرة وقابلة للتوظيف المشروع للحصول على تعاطف إنسانى دولى مستحق مع الشعب الفلسطينى وفضح جرائم الاحتلال.
ولم تكن الحرب الراهنة بين حركة حماس مع فصائل فلسطينية أخرى وجيش الاحتلال، شأنها شأن كافة الحروب السابقة، إنما هى حالة مغايرة لكل ما سبق، وما كانت لتشتعل لولا استمرار الاستيطان فى الضفة والقدس والاعتداء على المقدسات الدينية، فضلاً عن الحصار الجائر على غزة، وصمت العالم على الظلم التاريخى للشعب الفلسطينى، الذى حرم من حق تقرير المصير وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، وتركهم فريسة لممارسات العنف الممنهج من دون حماية دولية أو اعتراف عالمى قاطع بشرعية مقاومته للاحتلال.
الأصل فى الحروب جميعها، إذا، هو فعل الاحتلال والاستيطان، والمقاومة هى رد فعل، وإن لم يكن كذلك فقط، فالمقاومة فعل مشروع، فهم الذين يقتلون ويشردون ويعاقبون جماعيًا وتهدم بيوتهم وتصادر ملكياتهم ويطردون من أراضيهم لكى تتسع رقعة الاستيطان، فمقاومة الاحتلال بأدوات عسكرية وسيلة مشروعة حال فشل التفاوض، باعتبار أن حمل السلاح فى مواجهة المحتل واجب وطنى ودينى وأخلاقى.
وللتأكيد على أن الحرب الدائرة الآن ليست كغيرها من الحروب السابقة، هو ذلك الجنون فى التدمير، وقتل الأطفال والنساء والرجال، وتدمير المستشفيات وقطع المياه والكهرباء ومنع وصول الدواء، وذلك فى محاولة لإنقاذ دولة الكيان، التى انهارت فى ساعات معدودة أمام مجموعات لديها عقيدة، فهجوم القسام هدد وجود الدولة ذاتها، بعد أن كشف هشاشة جيشها وزيف قوته، وعرى كل أجهزتها الأمنية ومنظومتها الدفاعية التى يطلق عليها «القبة الحديدية»، وهذا التهديد أدركته أمريكا وحلفاؤها، فهرعوا جميعًا، وتحولت تل أبيب قبلة لاستقبال كبار مسئولى الدول الغربية للمؤازرة وإعلان الدعم، لانقاذ الكيان المنهار أمام العملية العسكرية للمقاومة يوم 7 أكتوبر، على رأس هؤلاء «بايدن «، وأمام هول ما جرى للكيان الصهيونى، جرى توسيع إطار الحماية بأسلوب أكثر غطرسة، وهذا هو ما يراه العالم الآن من احتشاد دولى غير مسبوق، أمريكا، بريطانيا، ألمانيا، فرنسا، ايطاليا، أما الأسلحة، حاملات طائرات وفرقاطات ومدمرات وغواصات و4آلاف من جنود المارينز وأسلحة ثقيلة، وامدادات عسكرية لإسرائيل بقذائف موجهة وصواريخ ودعم مالى أقره الكونجرس 14مليار دولار بشكل عاجل وسريع، وفيتو أمريكى فى مجلس الأمن لعدم تمرير قرار بوقف الجرائم الصهيونية ضد المدنيين فى غزة، الأمر هنا يتجاوز حماس وكتائب عز الدين القسام وبقية فصائل المقاومة، ويمتد إلى إحياء مخططات قديمة، بإنهاء القضية الفلسطينية تماماً، عبر تهجير أهل غزة إلى مصر والأردن، وهو ما تتصدى له مصر بشكل واضح لا لبس فيه، وكرره الرئيس عبدالفتاح السيسى أكثر من مرة وبقوة، معلنا رفضه تهجير الفلسطينيين من أراضيهم ولن يكون هناك حل على حساب مصر.
وما كان للحرب الدائرة التى حصدت كل هذه الأرواح البريئة 4000 شهيد حتى لحظة كتابة هذه السطور، أن تحدث أو تتسبب فى كل هذا الدمار الذى لحق بالبشر والحجر، لولا غياب الأفق السياسى وانهيار معايير العدالة الدولية، بغية حل سياسى يضمن الحق فى إقامة دولة فلسطينية على الأراضى المحتلة فى 1967، وهذا دون سواه الضامن الوحيد لأمن دولة الاحتلال، وهو الوحيد الذى يوفر لها بيئة الاندماج مع محيطها الإقليمى.
ولكن تقع مسئولية هذا الغياب على صلف حكومات اليمين، والأهم على القوى العظمى التى تتعمد تجاهل قضية فلسطين وتصر على الابتعاد عنها، أما القوى الإقليمية فى الشرق الأوسط فحدث ولا حرج، انشغلت إما بمشكلاتها أو صراعاتها على النفوذ الاقليمى، أو بالتطبيع الثنائى مع الكيان الغاصب.
وفى ظل هذا المشهد شديد التعقيد، تمكن جيش الاحتلال من ممارسة إرهابه الممنهج دون محاسبة من القوى العظمى أو تحذير حاد وخشن من القوى الإقليمية التى تكتفى دائمًا ببيانات التنديد، وتركوا الشعب الفلسطينى لمصيره المجهول، باستثناء بعض المساعدات الإنسانية.
ووظفت قدراتها للتفاعل مع قضايا الشرق الأوسط الأخرى بحثًا عن النفوذ الذى يريدونه.