
غريب أمر
الحكومة فى كل شىء، ابتداء من أفعالها المخيبة للآمال، وليس انتهاء بتصريحاتها
العنترية المشحونة بالاستفزاز، فهى لا تعترف بتقصيرها، أو بتعبير أكثر دقة، لا
تعترف بفشلها، وعدم قدرتها على معالجة الملفات المعيشية، للشريحة الأكبر من الشعب
المصرى، وهم الغالبية المسحوقة حتى النخاع، هى دأبت سواء بمناسبة أو بدون مناسبة،
لوم غيرها وتحميله المسئولية، بالضبط مثل من يعلق أخطاءه على شماعة الآخرين، تقول
الحكومة، إنها ليست السبب، فيما وصل إليه الحال من تراجع اقتصادى مذهل وكارثى،
وأنها ليست السبب فى تدنى الاوضاع المجتمعية، فشعارها الذى ترفعه «مش إحنا السبب»،
هو شعار استفزازى، بغيض، يحرض على كيل الاتهامات لها.
فاذا كانت هى ليست السبب كما تدعى، فمن السبب
إذاٌ؟ هل الشعب مثلاً؟ وما علاقة الشعب بالقرارات والسياسات التى تصدرها، هل تتم
استشارته واشراكه أو إخباره؟، قطعاً لا هذا ولا ذاك، لكنها الشماعة الجاهزة لالقاء
المسئولية واللوم على الحلقة الضعيفة فى الدولة «الشعب» وهى تعلم علم اليقين، ليس
بمقدوره أى أحد مواجهة ادعاءتها بصورة علنية. لو كانت الحكومة ليست هى السبب فى
الأوضاع الحالية، فبالبلدى «كده» ومن غير تزويق للكلام» أومال مين
السبب يا
حكومة؟
إن هذا
التساؤل الذى نرى أنه مشروع، يفرض علينا التأكيد على قناعات ضرورية ومهمة، مفادها،
من منا لا يعرف الواقع بكل ما فيه من مآس اجتماعية واقتصادية؟ من منا لم يتأثر
بصورة مباشرة من السياسات الحالية؟ والمقصود بالتأثر هنا، يتعلق بالأحوال المعيشية
والتزاماتها المتنوعة بخلاف الغذاء والدواء، إنما تمتد إلى إنهاك قوى المواطن فى
مجالات متعددة، تجعله غير قادر على الوفاء بها، هذا شأن الغالبية، وليس شريحة
بعينها، فبدون أى مبالغة أو تهويل، الجميع يئن ويشكو، ولا حديث يشغل بال المصريين
على اتساع الوطن فى الآونة الأخيرة سوى التعبير عن مخاوفهم من المجهول، جراء
الأوضاع المتدنية التى تضرب البلاد من شمالها إلى جنوبها.
فتوقعات
المخاوف من المجهول تتباين من خيال فئة إلى خيال فئة أخرى، كٌل حسب ما لديه من
هموم، لذا لا يمكن لأى انسان عاقل فى هذا البلد أن يتجاهل أو ينكر، تأثير الأزمة
الاقتصادية على الأمور الحياتية والمعيشية للشرائح المجتمعية بتنوعها، وعلى رأسها
انهيار الظروف المادية أمام فواتير الخدمات، والتى لا تتسق بحال من الأحوال مع
مستويات الدخل، والأهم هو العجز عن شراء الضرورية والالتزامات الأسرية.
رغم وجود السلع
وتوافرها فى الأسواق، فهذا لا يعنى أنها متاحة للمواطن البسيط، غير القادر بالأساس
على النظر لمشاهدة السلع التى تمثل احتياجاته، فالحقيقة أنها ليست متاحة بالمرة من
الناحية الموضوعية، لعدم توافر القدرة الشرائية لدى الغالبية.
ألم يكن
هذا كله كاف بأن يجعل الحكومة فى مرمى سهام الاتهامات بالفشل، لأنها لم تضع البعد
الاجتماعى ضمن سياستها، فما تنتجه قراراتها من كوارث تزكى من وتيرة المخاوف، ربما
يكون الانفلات الجنونى فى أسعار السلع، فهى لجأت لطريقة تثير الاستغراب، وبدلا من
فرض الرقابة على الأسواق، أو إيجاد حلول مبتكرة للتيسير على المواطنين، لجأت إلى
إقامة الشوادر والتوسع فى المنافذ قبيل شهر رمضان، دون إدراك بأن ما تفعله ليس الا
مجرد مسكنات وقتية، لأن الأمور ستعود كما كانت بنهاية الشهر الكريم.
بات
معلوماٌ للكافة أن الحكومة لم يعد لديها أى حلول اقتصادية، للخروج من المأزق الذى
أوقعتنا فيه، جراء نهج لم تراع فيه مسئوليتها بتعظيم الموارد من العملات الأجنبية
بالإنتاج والتصنيع، لمراعاة الأبعاد اجتماعية والخطط المستقبلية، فقط جنحت صوب
اللجوء للقروض، رغم علمها بأن مواردنا لا تفى بالوعود المقطوعة للسداد، ورغم علمها
بأن التفريط فى الأصول بهذه الطريقة المتكررة، ستجعلنا كدولة ومجتمع مجرد مشهلاتية
للغير، بما يعنى أننا سنعمل لصالح الغير، وهو المستثمر الذى اشترى ويحصل على
العوائد، باعتبار أن هذا هو النتيجة الطبيعية.
إن ما يجرى
من ممارسات على الأرض، يؤكد بجلاء على أن الحكومة فقدت بوصلة التوجه نحو إصلاح
الأوضاع المتردية، وليس لديها خطط جاهزة للإفلات من المأزق الحالى بالانتاج
والتصنيع، لكنها لجأت بارادة كاملة إلى الطرق السهلة وهى الاقتراض، من دون ادراك
لتبعات صنيعها البغيض على الأجيال القادمة ومستقبلها، والذى يؤثر بشكل صريح وواضح
على الأوضاع العامة لم يعد غريبًا بالمرة أن يئن الجميع من سياسات مترهلة، سياسات
باتت كريهة، ولا تمنح فرصة للمبدعين والخبراء والمتخصصين، أن يدلو كل منهم بدلوه
فى امور تخص الجميع، ولا تخص الحكومة وحدها، فاللجوء لتلك الفئات، يقينًا سيغير من
الرتابة والأساليب التقليدية فى حل الأزمات إن حالة اليأس من الحكومة جراء التيه
الذى تعيش فيه، دفعت المغامرين والفهلوية، وما أكثرهم فى بر مصر، لترسيخ قانون خاص
بهم، قانون شعاره» أنا ومن بعدى الطوفان.
«فهى اكتفت
برفع الشعارات، أقصد الحكومة، ومن بين تلك الشعارات عبارة تشعرك للوهلة الأولى
بأنها تدور فى فلك قانونى وأخلاقى ترعاه بشفافية، وهى العبارة التى تنتهى بها
الإعلانات المتعلقة بالترويج للسلع والخدمات التى تقدمها الشركات بتفويض من
الحكومة، باعتبارها هى التى تقوم بتحصيل الضريبة، ناهيك عن المصروفات، أو هكذا
نفهم، وهى عبارة مكونة من ثلاث كلمات نصها الآتى..» تطبق الشروط والأحكام».
إن هذه
العبارة المغلفة فى إطار براق، ومشحونة بقدر هائل بالتدليس، لم تكن سراً نرويه
لأول مرة، أو أنها اكتشاف جديد نلقى به على قارئنا العزيز، انما جرى تداول هذه
العبارة كقضية من آخرين، تم تداولها فى الإعلام بتنوع أشكاله فى اطار الاعراب عن
التخوف، والرغبة فى التحذير منها، نعم قد لا يعلم كثيرون بأساليب التدليس المتقنة،
ويعتبرونها نوعًا من الترويج أو التسويق العادى للعروض فى ظل المنافسة، لكن حين
يتقدم المستهلك لشراء السلعة، يكتشف أنه وقع فى براثن عمليات النصب، لأن العبارة
المدونة بها تدليس وخداع، حيث يكتشف المواطن تحميله بأعباء وتحصيل ضرائب ومصروفات
خدمات لم تكن مدونة بالأساس، ولم يسمع عنها المستهلك قبل الشراء.
واقع الحال
يؤكد أن سوء النية تجاه المستهلك مقصود بدقة، ويؤكد هذا الطرح أمور عدة، منها عدم
الإفصاح عن تفاصيل العبارات المغلفة، وتركها على حالها المبهم، الذى يحمل تناقضاً
مثيراً وغريباً فى ذات الوقت، فظاهره احترام القانون والأحكام التى توحى بأن
الحكومة هى التى تضعها، وتحدد آلياتها، أما باطن الشعار أو المصطلح، فيحوى التدليس
والخداع، فهل شاركت الحكومة فى هذا الأمر؟ وان لم تكن شريكة فى هذا، فمن الذى يقوم
بتحصيل المبالغ المضافة على السلعة؟.. سؤال آخر، لو لم تكن الجهات المعنية على علم
فأين الرقابة على الأسواق، خاصة جهاز حماية المستهلك؟
يا سادة.. إن تراكم مثل هذه الأمور ساهم فى
اتساع رقعة انعدام الثقة، خاصة أن الصراخ المتتابع، لا يجد صدى لدى الجهات
المعنية، وساهم أيضاً فى اتساع رقعة الأزمات الناتجة عن أزمات، فالأزمة تخرج من
رحم أزمة وهكذا، فمنذ بداية التراجع الاقتصادى وانخفاض قيمة الجنيه أمام الدولار،
لم يتم التعامل مع الأمر بقدر من المسئولية، لكن الارتباك كان هو سيد الموقف فى كل
حالة، لذا تم التعامل بعشوائية وعدم الاستماع لذوى الخبرة والدراية بالشأن
الاقتصادى وبالطبع فى القلب من الأزمات المتفاقمة، باعتبارها الأزمة الأهم هى أزمة
الدولار، فهى لم تعد من الأزمات الطارئة أو العابرة، أو أنها من الأمور التى يمكن
التعامل معها، أو التغلب عليها بصورة وقتية، لكنها أزمة مزمنة تطل برأسها على مدار
الساعة، يتحدث فى شأنها أصحاب البيزنس والباعة الجائلين، والشباب على المقاه،
والسيدات فى المنازل، وكذلك الفلاح فى الغيط والسائق والعامل والموظف الكبير، الكل
سواء فى الهم، حيث صارت الشغل الشاغل لمن لديه دراية بالشأن الاقتصادى أو من لا
يعرف شيئا عن هذه الأمور، واشتعلت بورصة المصاطب التى تتفوق فى تقديراتها لسعر
الدولار على البورصة الرسمية، مفاد القول إن المزاد المنصوب على مدار الساعة بدون
دراية، ساهم بصورة فجة فى ارتفاع أسعار سلع كثيرة ليست مرتبطة بالدولار، وساهم
أيضًا فى السعى للشراء من السوق السوداء.
يقينا.. هذه
الأزمة، الدولار، تتأثر بأى متغيرات سياسية واقتصادية إقليمية أو دولية أو أوضاع
داخلية جراء الخلل فى ميزان الصادرات والواردات، والتوجه صوب التوسع فى الإنتاج،
لذا يجب أن تتعامل الحكومات مع تلك الإشكاليات بالدراسة والتحليل ووضع الخطط
المبنية على أسس علمية، والاستماع لرؤى الخبراء والمتخصصين فى المجال الاقتصادى
بتنوع مفرداته، وكذا البحث الدائم عن حلول مستدامة، إلى جانب الخطوات التكتيكية
للحد من تفاقم الأزمات واتساع نطاقها، وهذا يتطلب أن تدور الحلول فى فلك
استراتيجية محددة التوجهات والبعد الزمنى، لكى يتناغم الشارع مع توجهات التنمية
الشاملة» السياحة والتصنيع والزراعة، والبحث العلمى ودراسة احتياجات الأسواق
الدولية والتوسع فى الاستثمارات الانتاجية»، وهذا يتطلب خطوات جريئة تتجاوز الحلول
التقليدية.
وفى النهاية.. يجب التأكيد على أمور، أرى أنها
فى غاية الأهمية، محورها يدور فى الشفافية من جانب الحكومة، عبر أخبار المجتمع
بالقرارات الصادرة منها، وجدواها، حتى لا تترك الفرصة أمام إطلاق الشائعات،
وجميعها مغرضة، تهدف الهدم لا البناء، وفى ذات الوقت، على وزراء الحكومة امتلاك
الجرأة بإعلان مسئوليتها عن ما يحدث، لا التنصل منه، ورغم عدم اقتناعى بالصخب الذى
يملأ الفضاء الإلكترونى عن الحرب الخفية التى تقف وراء الأزمة الاقتصادية، فإننى
أرى أن الصخب ليس إلا شماعة جاهزة، يعلق عليها المنتفعون من فشل السياسات
الحكومية، لتجميل صورتها أمام الرأى العام، رغم قناعة أغلب الشرائح المجتمعية بعدم
قدرتها على الإبداع والابتكار، وعدم المهارة فى التفكير خارج الصندوق، لمواجهة
الأزمات، واللجوء للحلول التقليدية، هذا إن كانت هناك حلول بالفعل، لكنها لم تخطئ،
ولو مرة واحدة، وتعلن حلول للأزمات، انما تحميل المسئولية للغير، فقط لا غير، من
دون إدراك بأن ما تصنعه سيضيف المزيد من الأعباء على الدولة، وبالتبعية سيدفع
ثمنها المواطن.
ولا يفوتنا فى هذا السياق، اتركوا الحديث عن
مؤامرات المنتفعين، وحاصروهم بالقانون، وليس بإلقاء التهم، فمهما كان حجم المغامرين
والفهلوية ومهما كانت قدرتهم على تجاوز القانون، فهم فى النهاية مجرد أفراد، ولا
يستطيع الأفراد مهما بلغت جرأتهم تحدى الدولة.