
لولا استبداد الحكام الطغاة ما استيقظت الشعوب على الأسوأ منهم، هذه قاعدة لا يمكن تجاهلها أو القفز عليها، حين تذهب أبصارنا وعقولنا لما حدث فى سورية.. سقط بشار الأسد إلى غير رجعة، تهاوى نظامه من دون مقاومة، تبخر جيشه وانهارت مؤسسات الدولة، بصورة تطرح ألف علامة استفهام، فر ومعه أسرته إلى حليفته موسكو، تاركاً وراءه دولة تتقاذفها أمواج المصالح الدولية المعقدة، لتذهب بها إلى المجهول، هذا إن بقيت دولة بالمفهوم السياسى والجغرافى، لكن لماذا سقط النظام العتيد بهذه السهولة؟ وكيف انهارت أركان الدولة بتلك الصورة المفزعة؟ ولماذا تخلى الجميع عن بشار فى تلك اللحظة الفارقة؟ والأهم من هذا وذاك، أين الجيش والشعب وحزب البعث؟
هذه التساؤلات وغيرها ستظل هى العنوان الأبرز لما جرى، سواء وجدت إجابات لفك شفرات لغز السقوط المدوى، أو لم توجد.
ما جرى فى سورية فتح شهية هواة التنظير والتحليل، لاستدعاء الخيال على أوسع نطاق، عبر ربط ما جرى بأمنيات كارهى الأوطان بصورة بغيضة، فعلى خلفية سقوط سورية فى قبضة التنظيمات الارهابية التى تعمل لحساب مصالح دولية، نشطت اللجان على منصات التواصل الاجتماعية فى الحديث عن قرب تكرار المشهد ذاته فى مصر، بالطبع ما جرى له تأثير مباشر على استقرار المنطقة وفى القلب منها مصر، ولا ينكر أن أى عاقل هذه الحقيقة، لكن فى المقابل أن يوضع فى الاعتبار ظروف كل مجتمع على حده، مصر لا توجد فيها طائفية أو صراعات عرقية، أو تنافر مذهبى مثل العراق أو سورية، وهذا ينعكس بالضرورة على مكونات مؤسسات الدولة الصلبة، كل تلك التصورات، تقودنا للإقرار بأن مجتمعاتنا تعيش حالياً بين فكى رحى عالمين متنافرين، الأول افتراضى قائم على تصورات وأوهام، تشعرك بأن النظام فى مصر قاب قوسين أو أدنى من الانهيار، وأن تقسيم مصر قادم لا محالة، والثانى واقعى محكوم بمقومات ثقافية وتاريخية وتجارب سابقة.
وإذا خرجنا من دائرة التصورات الوهمية إلى براح الواقع الذى صار معلوماً للكافة، سنجد أن الفرحة التى قوبل بها ما جرى فى سورية، تعبر بجلاء عن خروج المجتمع من نفق ظل مظلماً لعقود طويلة، لكن من الضرورى أن يخضع ذلك لميزان مصالح الأوطان ومستقبلها، بحيث لا تطغى سعادة اللحظة الزائلة على كوارث الحروب الأهلية والمطامع الدولية، والتى بدأت بالفعل.
إن سقوط بشار الأسد لم يكن شأناً خاصاً بالدولة السورية، لكنه شأن عربى وإقليمى ودولى، باعتبار أن سورية دولة محورية مهمة فى محيطها، وجزء رئيسى فى معادلة الصراع العربى الصهيونى، فالأمر هنا يتجاوز الحديث عن حاكم طاغية ونظام مستبد، أغرق سورية فى دوامات الطائفية وممارسات القمع، دون أن يطلق رصاصة على عدوه الحقيقى إسرائيل، فالأمر يتعلق بمستقبل المنطقة برمتها، هل حدث تواطؤ أو خيانة مثلاً، أم استسلاماً لرغبة قوى دولية فاعلة، خاصة أن الشىء الذى يثير الريبة هو، فرار الجيش السورى من دون أى مواجهة تذكر، فهو لم يدافع إطلاقاً عن النظام والدولة، وفق مسؤولياته الدستورية من ناحية، وبرغم الزيادة فى مرتباتهم، ودعمهم اللامحدود من جانب بشار من ناحية أخرى.
وما يدفع للغرابة أيضاً أن مؤسسات الدولة تعاونت بصورة مباشرة مع الجولانى الذى غير كنيته إلى أحمد الشرع وهيئة تحرير الشام، جانب آخر لا يمكن إغفاله فى سياق الريبة ذاتها، أن الحلفاء الإقليميين، وتحديداً روسيا وإيران، استسلموا للأمر بسهولة، بما يشير إلى صفقة تمت فى الخفاء، حلفاؤه باعوه ليلاً، وحصلوا على المقابل، الذى لم يُعرف بعد.
وإذا اتسعت دائرة الرؤية للحدث، سنرى أن الظهير الشعبى له من طائفته «العلويين» فى مدن الساحل لم يدافعوا عنه لأسباب كثيرة منها الظروف الاقتصادية السيئة اللى فرضها عليهم بشار ودرايتهم بأن هذا النظام انتهت صلاحية بقائه منذ عدة سنوات.
وربما يكون السؤال الأهم فى هذه الحالة الغريبة والمريبة، لماذا يسقط الطغاة بتلك الصورة المهينة، رغم ثقتهم المطلقة بأنهم مخلدون؟
ربما يفهم البعض أننى ضد بشار الأسد، وهذا حقيقى ولا أنكره، لكن ليس معنى بغضى لنظام بشار أننى مع الفصائل الإرهابية الذين أسقطوه ويحكمون الآن بدلا منه، فهؤلاء أكثر خطرا على سوريا وعلى المنطقة برمتها من نظام الأسد، فالمتاجرون بالدين أشد خطرا من أى ديكتاتور ومستبد.
لكن دعونا نحتكم لوقائع ماثلة أمامنا، وتمثل نقطة جوهرية فى رؤيتنا للمشهد بعيداً عن التعامل مع الأمور بانفعال عاطفى، أن التنظيمات الإرهابية، لا تنمو ولا تعيش ولا تستمر إلا فى بيئة ينتشر فيها القهر وغياب العدالة وظلم الطغاة.
هذه المفارقات الغريبة بين رفض الحاكم المستبد والجماعات الإرهابية، ماثلة أمامنا فى ليبيا والسودان واليمن والعراق، الشعوب باتت تترحم على أيام القذافى والبشير وعلى عبدالله صالح وصدام حسين، وربما يترحم السوريون على أيام الأسد سواء الأب أو الابن يوماً ما.
والسبب أن تلك الشعوب ثبت لها أن هؤلاء الطغاة كانت أرحم على المجتمعات من الانقسامات والحروب الطائفية والعرقية والأهلية والأزمات الاقتصادية والمجتمعية والسياسية الموجودة فى بلدانهم هذه والأهم عدم وجود دولة، فقد أصبحت تلك البلدان دولاً فاشلة.
إن سقوط بشار الأسد ليس حالة استثنائية فى التاريخ، فقد سقط قبله العديد من الطغاة، لأنهم اعتقدوا أن حكم الشعوب بالحديد والنار سيضمن لهم البقاء، نعم استأثر بشار الأسد بالسلطة هو وطائفته، قمع المعارضة وزج بهم فى الزنازين، ومنع أى صوت يعلو فوق صوته وصوت نظامه.
القراءة الدقيقة للمشهد السورى، تكشف لنا جوانب مهمة، ما حدث فى سورية هو نتاج للقهر وسياسات القمع إلى جانب ما أطلق عليه ثورات الربيع العربى، حيث سيطرت الجماعات المتطرفة على مساحات ومناطق داخل سورية، فتشكلت الولاءات لحكومات أجنبية، بخلاف ما جرى فى مصر، التى أنهت وجود تلك التنظيمات بعد حرب طويلة، لكن فى سورية، وصلت معاناة غالبية المواطنين إلى درجة غير مسبوقة من التردى، فى حين أن قلة قليلة من المحسوبين على النظام استأثروا بكل شىء، لذا لم يتحرك الجيش لمواجهة الميليشيات المسلحة، لأنهم شعروا أن النظام لا يعبر عنهم ولا يمثلهم، ثم اكتشفوا أنه فى نفسى اللحظة التى كان يطلب منهم القتال والتضحية بأنفسهم كان هو يركب الطائرة إلى قاعدة روسية فى اللاذقية ومنها هرب إلى موسكو.
فى سياق الأحداث غير المفهومة خرجت على السطح تبريرات، تبدو بالنسبة لى غير منطقية، بل إن من يصدقها أو يروج لها بهذا الشكل الساذج، فى ظنى خارج سياق الواقع، مثل الزعم بأن إسرائيل وأمريكا وتركيا وكل الميليشيات الإرهابية، جميعهم كانوا يحاصرون نظام الأسد منذ سنوات طويلة، أنا لا أنكر أن ذلك صحيح، بل وصحيح جداً، لكنه لا يمثل سوى جزء من الحقيقة، لكن بقية الحقيقة تقول إن نظام الأسد الأب والابن لم يطلق رصاصة واحدة ضد إسرائيل منذ فض الاشتباك مع إسرائيل عام ١٩٧٤، رغم تعرض الأراضى السورية هدفاً دائماً لغارات اسرائيلية.
فضلاً عن إن هذا النظام أتيحت له أكثر من فرصة لاستيعاب المعارضة، ولو كان فعل ذلك لحاصر الميليشيات المتطرفة، لكنه اعتمد فقط على الدعم العسكرى الإيرانى والروسى.
يقيناً.. نظام بشار كان عنواناّ لأبشع نظم الحكم فى التاريخ الحديث، لكن الميليشيات المسلحة التى استولت على السلطة لن تكون أفضل، بل ستقود البلاد إلى الجحيم، والتجارب فى المنطقة خير شاهد، فهذه الجماعات لم تتدرب على الحكم، هى فقط قائمة على السمع الطاعة، وثقافة الانتقام وإباحة القتل والسحل، والقبليات فى الحكم والتقسيم لإمارات، فضلاّ عن الصراعات داخل التنظيم الواحد، ولا تؤمن أساسًا بفكرة التعدد والتنوع والرأى الآخر، والديمقراطية بالنسبة لهم من المفردات المحرمة، لأن الديمقراطية تتنافى مع منهاج السمع والطاعة.
وعلى هذا الأساس، نخلص إلى أن إحدى جرائم بشار وغيره من الطغاة، هى حصار المكونات السياسية المعتدلة وتشريدهم وطردهم، لذا لم يبق أمامهم سوى القوى المتطرفة، وهذا ما نراه جلياً فى ليبيا واليمن، جيوش وميليشيات موازية، كما نراها أيضاً فى السودان والعراق.
إن الطغاة لم يتعلموا من دروس التاريخ، ولم يتعظوا مما جرى لغيرهم، لكنهم راحوا يمارسون أبشع أساليب الاستهانة بشعوبهم وأوطانهم، هؤلاء تجاهلوا شعوبهم ولم يوفروا لهم الحد الأدنى من الحياة الكريمة، ولم يحافظوا على وحدة الأراضى ولم يصونوا المؤسسات والجيوش، وهذا ماثل أمامنا فى عدد من الدول، جيوش تتناحر وتتقاتل، جيوش وطنية وأخرى مدعومة من قوى أجنبية والسودان خير مثال وليبياوالعراق وأخيرا سورية، حيث لا يعرف أحد من مع من، ومن ضد من، ومن موالى لمن، ومن تابع لمن.
إن هؤلاء الطغاة لو كانوا جواسيس حقيقيين، يعملون بصورة رسمية لصالح إسرئيل، أو يعملون لكل أعداء أوطانهم، ما فعلوا بشعوبهم مثلما فعلوا على أرض الواقع.
هم قدموا خدمات مجانية لإسرائيل، سوف تدفع ثمنها أوطانهم لأجيال طويلة قادمة.
يقيناً.. انتقلت سوريا من حالها السيئ إلى قادم أسوأ، انتقلت من حكم طاغية أجرم فى حق شعبه، إلى سيطرة جماعات فاشية، تحركها أصابع أجهزة استخبارات ومصالح قوى إقليمية لديها طموحات توسعية، وأخرى عالمية لديها مطامع فى ثروات المنطقة، أن ما حدث فى سوريا، ليس مجرد إسقاط حكم طاغية، أو اقتلاع نظام طائفى وراثى متشعب ومرعب ومدعوم من قوة عظمى، لأكثر من نصف قرن وكان يستحيل خلعه أو تغييره وإصلاحه، فقد تجبر فى القمع رغم ترهله، واستباح شعبه رغم عجزه وشيخوته فى مواجهة أعدائه، نظام لم يطلق قذيفة لتحريك المياه الراكدة فى قضية أرضه المحتلة.
أما الميليشيات المسلحة التى تحكم سورية الآن، فهى تنظيمات إرهابـ.ـية مارقة وخائنة وعميلة لجهات خارجية، وأى ابتهاج أو سعادة بتوسعها على حساب النظام الديكتاتورى، هو تعبير عن سعادة بعودة الخراب والدمار والقتل والتشريد للشعب الذى هاجر بالملايين خارج البلاد، فضلاً عن أن ذلك سيكون خطوة أولى لتفعيل سيناريوهات التقسيم لهذا البلد المهم على المستوى الإقليمى وعلى مستوى الأمن القومى العربى، وعلى مستوى الصراع الأزلى مع الكيان الغاصب للأرض.