
من عجائب الحكومة، أنها تفاجئنا دائمًا وأبدًا بكل ما هو جديد، فعلى مدار الساعة تُخرج لنا من جعبتها، التى تنضب وعودًا وقرارات وتصريحات، ظاهرها، تخفيف المعاناة عن كاهل المواطن، أما باطنها فهو تخفيف العبء من على كاهل الحكومة، ويزيد من حجم الأعباء على المواطن، ومعها مزيد من المآسى، فهل تعمل الحكومة معنا، ولصالحنا أم أنها ليست كذلك؟
ثمة تساؤلات كثيرة حائرة، تقفز تلقائيًا إلى أذهان الغالبية، وأنا منهم، بحثًا عن إجابات قاطعة، تبدد التكهنات بالتداعيات الناتجة عن قرارات الحكومة، وإلى أى مصير ستقودنا إليه تلك القرارات، التى لا تراعى فى مضمونها البعد الاجتماعى، أو الظروف الاقتصادية التى يمر بها السواد الأعظم فى المجتمع، خاصة الفئات معدومة الدخل، وكأن الحكومة تعيش فى واد آخر غير وادينا، ولا تعلم شيئًا عن معاناة غالبية الشرائح المجتمعية، والتى ليس لديها أى قدرة على العيش فى ظل الارتفاع الجنونى للسلع الضرورية، وعدم القدرة على تحقيق ادنى متطلبات الحياه.
تأتى هذه التساؤلات، وربما غيرها، كنتيجة طبيعية لتراكم المآسى، التى تعقب التصريحات الوردية للمسؤولين، وسرعان ما تتبخر فور مغادرة الميكروفونات والكاميرات، ولا يجنى المجتمع منها سوى نتائجها الكارثية،التى تجعلهم دائمًا يخشون سياستها، وقراراتها، المتعلقة بالنواحى الحياتية والمعيشى، من مأكل ومشرب ودواء ومواصلات، ناهيك عن الزيادات غير المبررة فى أسعار الطاقة، التى تجلد المواطن الفقير، الذى لا يستطيع تحمل تبعات تلك الزيادة، وانعكاسها على ظروفه. وقبل أن نفيق من صدى صدمة، تداهمنا أخرى، ربما أشد قسوة من سابقتها، فقبل أن يخفت الأنين من تداعيات الزيادة فى أسعار المحروقات، خرجت علينا الحكومة بأفكارها التى لا تتوقف، ومن بينها التوجه نحو تطبيق الدعم النقدى، بدلاّ من الدعم العينى، والكثير والكثير من الأمور، التى تضيف الى رصيد المخاوف من تلك السياسات، التى تعودوا عليها منذ عشرات السنين.
فى سياق التصورات المطروحة، يمكن لنا إلقاء الضوء، بقدر من التحفظ، حول الفرق بين الدعم النقدى والدعم العينى، ففى الحالتين، لا توجد فروق، طالما أن المواطن المستحق للدعم، سيحصل على حقه، سواء كان نقديًا أو عينيًا، وفق كلام الحكومة، ولكن ما تقوله الحكومة، لا يصدقه المواطن، فعلى مدار سنوات طويلة، ترتبط الزيادة فى أسعار السلع والخدمات، بعبارة صارت مزحة بين الناس ومثارًا للسخرية، ومفادها أن القرارات تصب فى مصلحة المواطن،وهى فى حقيقة الأمر، ترهق كاهل المواطن، وتجعله غير قادرًا على الوفاء بالتزاماته الأسرية.
فالحكومة حين رفعت أسعار الطاقة، الغاز والمشتقات البترولية، تعاملت مع المواطن بمنطق التاجر، الذى يسعى للربح، من دون أى اعتبار لمسؤوليتها عن الحماية الاجتماعية، بل تركت غالبية الشعب المطحون، فريسة بين أنياب أباطرة التربح من القرارات الحكومية، نعم هناك أباطرة يتربحون من القرارات الجائرة، فى ظل غياب آليات لتطبيق القرارات، أو التوجيهات الرسمية، فعلى خلفية كل زيادة تتطرأ على أسعار المحروقات، تتضاعف أسعار تعريفة المواصلات، ابتداءً من تذكرة الأتوبيس والمينى باص، ولا نغفل فى سياق حديثنا التوك توك،الذى لا يخضع لأى رقابة أو ضوابط من أى نوع، وكذلك التاكسى الذى يعمل بدون عداد، لأن السائقين، لا يستطيعون ملاحقة التغيير المستمر فى تعريفة العداد، لذا تم تركهم يعبثون كما يشاءون، ناهيك عن وسائل رى الزراعات، وسيارات النقل، فارتفعت أسعار الخضروات والفاكهة، بل وكل شىء، وفى المقابل دخل المواطن لا يتغير، فما بالنا بعمال اليومية والأرزقية، وأرباب المعاشات، وهؤلاء بالملايين.
وإذا انتقلنا من زيادة أسعار المواد البترولية، وما ترتب عليها فعليًا من تأثيرات سلبية على، الى الدعم النقدى، لا يتوقف سيل المخاوف، ولا حجم التكهنات، فالحكومة تقول إن من يستحق الدعم، سوف يحصل على حقه كاملًا إذا تم تطبيق الدعم النقدى، وحتى لو ارتفع معدل التضخم، فإنها، أى الحكومة ستقوم بزيادة الدعم النقدى لمواجهة الارتفاع الطارئ فى سعر السلع، وهذا فى حد ذاته، أن تحقق فعليًا، بمثابة شىء إيجابى للحكومة وللمواطن، بل وإيجابى جدًا،حال تنفيذه بصورة سليمة على أرض الواقع، أى لو تمت الرقابة بصورة جدية.
القراءة الدقيقة لمسألة التوجه نحو الدعم النقدى، تبدو من الناحية النظرية مثالية، باعتبار أن الدعم سيصل إلى مستحقيه الفعليين، بل وسيؤثر بالايجاب على عجز الموازنة العامة للدولة، لكن هذا لا يمنع من تنامى الهواجس، فمهما كانت تطمينات الحكومة، التى تأتى فى صورة تصريحات، فهذا يثير المخاوف، التى تستند الى تراكمات التجارب العملية مع الحكومة فى تنفيذ القرارات المماثلة، والتى جاءت نتائجها سيئة للغاية، وهذا ليس تجنيًا عليها، فالتجارب السابقة، خلقت نوعًا من عدم المصداقية، كما أن جوهر تلك المخاوف، يكمن فى عدم وجود آلية حقيقية للتنفيذ والقضاء على أساليب الفهلوة، والمحسوبية، والأهم من هذا كله، الغياب التام للرقابة على الأسواق والمتاجر، خاصة من مفتشى التموين، المنوط بهم هذه المهام، فعدم وجود رقابة حقيقية على أسواق السلع، وانفلات الزيادة غير المبررة، من دون مراعاة للظروف الاجتماعية، لن يفيد معه لا الدعم العينى، ولا الدعم النقدى، هنا فهلوة، وهناك جشع، وما بينهما يلطم المواطن البسيط على حاله.
وإذا كانت الاتهامات تلاحق أباطرة السوق، الا انها فى ذات الوقت، تطال الحكومة أيضًا، لأنها تتعامل مع المواطن مثل التاجر الجشع، وليس الشاطر، فما أن تقوم برفع الطاقة، وتحذر من الجشع، تقوم تلقائيًا برفع فواتير الخدمات الضرورية، مثل الكهرباء والغاز والمياه ورسوم النظافة، وغيرها من الرسوم الاجبارية التى تقصف ظهر المواطن فى المصالح الحكومية، كل ذلك يدخل ضمن مبررات الهواجس المشروعة.
لذا فإن التباين أو التوافق فى وجهات نظر المواطنين حول مسألة الدعم، أو زيادة اسعار المحروقات لها أسباب جوهرية، تتلخص فى غياب الرقابة على الأسواق، بمعنى أنه قد نتفق جميعًا على أن الحكومة تهدف بالأساس، تخفيف العبء على المواطن، وسعيها نحو توصيله لمن يستحقه، هى أفكار وأطروحات يجب تقديرها والثناء عليها، فمن الناحية النظرية، الدعم النقدى مفيد للمواطن وللدولة وللموازنة، ولن يتضرر منه إلا أباطرة السوق، والمحتكرون والمضاربون والتجار الجشعون، لكن على أرض الواقع، يختلف الأمر كثيرًا، لأن عدم قدرة أجهزة الحكومة المختلفة على الرقابة، سيطلق يد المحتكرين، ويشجعهم على الاستمرار فى نفس النهج، وسيرفعون الأسعار إلى مستويات فلكية، مما سيؤدى إلى عجز المواطنين عن تحمل أية أعباء جديدة عليهم تضاف للأعباء الموجودة، وبالتالى ندخل فى مشاكل وأزمات اجتماعية واقتصادية وسياسية لا يعلم خطورتها إلا الله وحده.
الجميع يعلم أن الأزمة الاقتصادية التى تعانى منها البلاد، سواء كانت لأسباب خارجية، أو لسوء السياسات الداخلية، وقد نتفق أو نختلف حول بعض التفاصيل فى هذا الشأن، الا أن أحدًا لا ينكر غياب الرقابة الفادح، وهناك ألف دليل ودليل، للتأكيد على حقيقة غياب الرقابة، وعدم محاسبة أحد على فوضى الأسواق، فقد أعلنت الحكومة أكثر من مرة أنها اتفقت مع شعبة المخابز،التى تبيع الخبز الحر، غير المدعم، على قواعد ومحددات السعر، خصوصا فيما يتعلق بوزن الرغيف وجودته، وحددت سعرًا واضحًا لكل وزن، يراعى حق صاحب المخبز فى الربح المناسب، وحق المواطن فى الحصول على الخبز بالسعر العادل، لكن كل ما قيل عن الاتفاقات مع الغرف التجارية، ذهب مع الريح ولم يتم تطبيقه، أو الالتزام به، بل رأينا أصحاب المخابز والباعة السريحة فى الميادين وعلى نواصى الشوارع، يبيعون بالأسعار التى تتوافق مع أهوائهم الشخصية، أى حسب المزاج، ضاربين عرض الحائط بظروف الناس وكلام الحكومة، أما السبب الجوهرى وراء هذا، فهو أن الرقابة غائبة، أو منعدمة أو ضعيفة.
وإذا كنا نتحدث عن رغيف الخبز، لأنه قضية أساسية لكل مواطن، سواء غنى أو فقير، لكننا لمسنا هذا وأكثر منه فى العديد من الأمور المتعلقة بتفاصيل معيشة المواطن، مثل اخفاء السلع الضرورية عبر تخزينها، لرفع سعرها مثل السكر والأرز والبطاطس، والبصل وغير ذلك، والنتيجة العملية لكل ما سبق، هو أن المواطن يشعر، بل ويلمس، أن الحكومة تتركه فريسة لجشع بعض التجار والمضاربين والمحتكرين من دون تحرك جاد منها يضع حدًا لهذه الفوضى.
فى إطار مواصلة حديثنا عن الدعم النقدى، تتنامى وتيرة المخاوف من عدم وجود بيانات حقيقية ومعلومات كافية عن المستحقين للدعم، فالحكومة من جانبها تقول إنها تملك هذه البيانات، والتجارب السابقة تقول إن بعض المصريين، يمارسون كل أساليب الفهلوة، ولديهم براعة فائقة فى تستيف الأوراق، فضلًا عن جوانب أخرى، يجب أن توضع فى الحسبان، والقول هنا بصورة جلية، يتعلق بوجود موظفين منعدمى الضمير، لديهم مهارات فى ضرب البيانات، وهذه أسباب جوهرية حقيقية، لقلق الناس من تطبيق الدعم النقدى.
على المستوى الشخصى وحينما أطالع، ما يتم تداوله عن العديد من الموضوعات المهمة، ومنها الدعم النقدى، أجدنى متحمسًا للغاية، ومقتنعاّ به من الناحية النظرية، لأنه سيقضى على العديد من المشاكل ويجعل السلعة تباع فى الأسواق بثمنها الحقيقى، وبعدها سيصل الدعم النقدى إلى من يستحقه فعليًا.
لكن بالنظر الى الواقع، تنتابنى المخاوف، ومن هذه الزاوية، يجب الإقرار بضعف أجهزة الرقابة خصوصا مفتشى التموين، ومراقبى تعريفة المواصلات على سبيل المثال.
لذا بات ضروريًا أن تبحث الحكومة عن آلية التنفيذ قبل البدء فى تطبيق قرار الدعم النقدى، وعليها أن تتأكد أولًا وأخيرًا، من معالجة المخاوف المتعلقة بالبيانات السليمة ومعها ضمانات واضحة، بأنها قادرة على ضبط الرقابة على الأسواق، والضرب بيد من حديد على كل المحتكرين، لطمأنة الفقراء الذين تقول أحدث البيانات الحكومية، أنهم يمثلون 35.4% من المجتمع.
ومن دون آليات التنفيذ ووجود رقابة تموينية فاعلة، فإن القرارات ستزيد مساحة التخبط، الأمر سيقود إلى مزيد من معاناة المواطنيين، ويفتح الباب واسعًا أمام فوضى الأسواق، واحتكار السلع الضرورية، واختفاء الأدوية، تارة بسبب تهريبها، وتارة أخرى لانتظار الزيادات التي لا تتوقف .