
ر
أسوأ ما فى موروثاتنا السياسية، وغرائزنا النفسية، إطلاق الأحكام القطعية فى القضايا الكبرى، واستدعاء فرضيات وهمية، للبناء عليها بغية الوصول إلى الهدف المنشود من استدعاء تلك الفرضيات، وذلك حسب مواقفنا العاطفية من أنظمة الحكم العربية حبًا أو كرهًا، والتشكيك فى كل شىء يصدر منها سواء إيجابًا أو سلبًا.
تابعت مثل غيرى من المهمومين بالشأن العام العربى والإقليمى، زيارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب إلى بلدان الخليج العربية، وهى الزيارة التى صاحبتها بروبجندا وصخب إعلامى يبلغ مضمونه حد التخوين والانبطاح، وما شابه ذلك من مصطلحات عبثية، لا يتسق ظاهرها مع جوهر الأحداث، وحقيقة ما يدور فى الكواليس.
وكنت أظن وليس كل الظن إثم، أن متصدرى مشهد التنظير والتحليل السياسى سيبتعدون عن المساحة العاطفية، المشحونة بمواقف مسبقة قبل إطلاق الأحكام والاتهامات، والتعامل مع الزيارة بحسابات المكسب والخسارة لكل طرف، مع الوضع فى الاعتبار مصالح كل دولة وتعاملها مع الملفات المختلفة بما يحقق مراميها، بعيدًا عن الهرتلة، فمصالح الدول لا تخضع للابتزاز أو العشم، أو التنظير على طريقة كلام المصاطب، مثل لماذا لا يتم استثمار جزء من الترليونات فى مصر؟ وهل قادة الخليج باعوا السيسى؟ ولماذا لا يريدون مصر قوية؟
إن طرح هذه التساؤلات المشحونة برؤى غير بريئة، تتم فى تجاهل عمدى لحجم الاستثمارات الخليجية التى جرى ضخها فى مصر خلال السنوات العشر الأخيرة، إلى جانب دعمها المعلوم للدولة المصرية، رغم وجود تباينات وتقاطعات فى ملفات تتعلق بمصالح كل دولة.
وعلى أى حال فإن كافة الأطروحات سواء سلبية أو إيجابية، ستجد تشكيكًا، فعند الإعلان عن استثمارات خليجية، تخرج آلة الدعاية السوداء لتدشين حملات دعائية، باتهامات هنا وهناك، محورها يدور فى بيع البلد والخيانة، وما شابه ذلك.
أشياء كثيرة تحفز على السخرية من التعليق على الزيارة وتداعياتها، منها إقحام مصر فى كجزء رئيسى من الأحاديث المتداولة، وهذا بالطبع يتم بقصد التشكيك فى المواقف المصرية، الثابتة والراسخة فى العديد من الملفات التى تخص الأمن القومى بكل مفرداته، وهى بالمناسبة أحاديث مصحوبة بتصورات غير منطقية بالمرة، ولا أبالغ إن قلت أنها فزلكات تنظيرية، لا تقترب من الواقع، إنما تعبر عن مكنون ما يحمله أولئك من أمنيات دفينة فى نفوسهم، كنوع من المكايدة السياسية ليس إلا، مثل الزعم بتراجع دور مصر إقليميًا وعربيًا لصالح بلدان الخليج وبالأخص المملكة العربية السعودية، وذلك فى إطار تداعيات زيارة ترامب، واختيار منطقة الخليج كوجهة أولى، حيث جرى طرح تساؤل، لماذا لم تشمل الزيارة مصر؟ وهو تساؤل يدلل على غباء من يطرحه، حيث غاب عن هؤلاء مواقف الدولة المصرية والرئيس عبدالفتاح السيسى المجابهة لرغبات الرئيس الأمريكى فى كل ما يتعلق بالأمن القومى المصرى، وامتداداته التى تشمل الأمن القومى العربى، نعم الأمن القومى العربى، فسياسة الدولة المصرية وعلاقاتها الإقليمية والدولية، شديدة التعقيد، لكن عنوانها الأبرز، عدم المساس بالسيادة المصرية على أرضها وسمائها وبحارها، وعدم السماح بتهديد أمنها القومى، وتلك ثوابت لم ولن تتغير.
ووفقًا لتلك المواقف التى تتسم بالحكمة وضبط النفس، تجاه ما يحاك ضد مصر وشعبها، فالدولة المصرية وبمؤسساتها الصلبة، لديها القدرة على استيعاب كل الصغوط التى تمارس من كل اتجاه، مهما كان حجمها ومهما كانت خطورتها.
ولمن لا يعلم، أن القيادة السياسية وجهت العديد من الصفعات لقاطن البيت الأبيض، وربما يكون السبب فى عدم دراية البعض، وهم كثر، هو التعامل الإعلامى السطحى مع الملفات الشائكة، خاصة فيما يتعلق بالعلاقة مع الغرب وعلى وجه الخصوص الولايات المتحدة الأمريكية، فمواقف مصر الثابتة كانت صادمة للقوى المهيمنة على القرار الدولى، عبر رفض رغبات الإدارة الأمريكية التى تصب فى صالح الدولة العبرية، والتى تحقق طموحات تل أبيب بتهجير أبناء غزة، والاجهاز على القضية الفلسطينية برمتها، لأن الأمن القومى المصرى فوق كل اعتبار.
وتمثل ذلك فى الرفض القاطع للتهجير القسرى أو الطوعى للشعب الفلسطينى من أرضه المحتلة، ورفض الضغوط الرامية لاقتطاع جزء من سيناء لتهجير الفلسطينيين ولو بشكل مؤقت، لأن مصر ترى فى ذلك إنهاء القضية الفلسطينية وإنهاء حلم الدولة.
فمصر رفضت وبشكل قاطع المشاركة فى التحالف الدولى بقوات مصرية فى الحرب على اليمن، كما رفض الرئيس السيسى دعوة ترامب لزيارة واشنطن وتأجيلها إلى أجل غير مسمى، مؤكدًا أن مصر أكبر من أن يستغلها أحمق، كما أنها لا تقبل التقليل من شأنها وحجمها وقوتها وتأثيرها.
مصر أيضًا رفضت صفقة «القرن « مقابل ٢٠٠ مليار دولار لسداد ديونها، وكان سيدفعها العرب وليس إسرائيل، كما رفضت لأكثر من مرة كل الضغوط لإنهاء القضية الفلسطينية وتهميش الشعب الفلسطينى، وربما كان هذا دافعًا أساسيًا فى تغيير لهجة ترامب، الذى أعلن موخرًا، أن من حق الشعب الفلسطينى العيش فى مستقبل أفضل، ويشكل الإعلان خطوة متقدمة فى منهجية السياسة والإعلام الأمريكى بضرورة إعلان قيام الدولة الفلسطينية، وهو ما أكد عليه الرئيس عبدالفتاح السيسى فى قمة بغداد، مشيرًا إلى أن التطبيع العربى مع الكيان الصهيونى لن يوفر الاستقرار، فالأمن والسلام واستقرار المنطقة مرتبط بإقامة دولة فلسطينية.
مصر أعلنت أيضًا رفضها منطق البلطجة، والقرصنة، وأسلوب الابتزاز، بهدف عبور قناة السويس مجانًا، فقد كان الرد حاسمًا جازمًا لا لبس فيه، فالقناة ممر مائى مصرى المرور عبره يتم بسداد الرسوم المستحقة حسب القوانين الدولية المعترف بها، بشأن قواعد تنظيم الملاحة الدولية فى المياة الإقليمية والدولية.
كما اعتبرت مصر أن ذلك منطقًا غير مقبول ومرفوض شكلًا وموضوعًا، وأنه لا مفر من سداد الرسوم المستحقة لعبور قناة السويس، أسوة بكل دول العالم، وأن منطق الغطرسة ومحاولات فرض السطوة لا يتناسب مع دولة بحجم مصر.
من بين أساليب التنظير المثيرة للسخرية، إدخال الدولة المصرية والقيادة السياسية فى جُمل هى بالأساس غير مفيدة، لكن يتم تداولها باعتبار جزءًا أساسيًا من أحاديث الهوى، مثل الادعاء بأن ترامب تجاهل مصر فى زيارته للمنطقة، وعلى هذا التصور، يتم التنظير والذهاب إلى مناطق فارغة، واعتبار أن عدم زيارة مصر دليل قاطع على تراجع دورها فى عهد الرئيس السيسى.
ورغم أن هذا التصور ساذج ولا يعبر إلا عن أمنيات مكبوتة لمن يطرحون تلك التصورات والتى نؤكد على أنها ساذجة، ورغم قناعتنا بأنها رغبات دفينة، إلا أننا سنجعل هذه التصورات محل نقاش، هل ترامب زار إسرائيل؟
وبالقياس ذاته، هل إسرائيل ليست مهمة لأمريكا؟
أن المتابع بدقة لما يجرى على الساحتين الإقليمية والدولية، سوف يدرك حزمة من الحقائق، منها الخلافات التى طفت على سطح العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، وهذه الأمور لم تعد أسرارًا خافية، لكنها علنية، وتداولتها العديد من التقارير الإعلامية فى الآونة الأخيرة، عقب الاتفاق أو التوافق مع جماعة الحوثى، بعدم الاستمرار فى العمليات العسكرية ضد السفن الأمريكية، مقابل التوقف عن شن هجمات أمريكية ضد اليمن، بما هو يشير إلى أن ما جرى، لم يوقف إطلاق الصواريخ ضد أهداف حيوية داخل دولة الكيان المحتل، فسبب عدم زيارة تل أبيب واضح.
فإذا كان التباين فى العلاقات مع أهم حليف استراتيجى لأمريكا فى المنطقة، فكيف سيكون التصرف مع دولة قالت « لا « قاطعة لفكرة أو رؤية طرحها ترامب فى زهوة انتصاره انتخابيًا على نائبة بايدن، وهذا لا يعنى وجود مشاكل أو خناقات مع مصر، لكن العلاقات الدولية تحكمها مصالح كل طرف من الأطراف، ومن الطبيعى وجود تباينات فى الرؤى وتقاطع فى بعض الملفات، لكن الجميع يدرك أن أى تهديد لمصر، هو بداية النهاية للمنطقة برمتها فقوة مصر داعمة للأمن القومى العربى.
جانب آخر لا يمكن إغفاله أو القفز عليه فى سياق الادعاءات عن تراجع دور مصر، وكأن هذا الدور مرتبط بزيارة رئيس أو ملك، لو أن ترامب زار مصر أو أنها كانت ضمن جولته فى المنطقة، من المؤكد سيخرج علينا جهابذة التنظير وخوابير التحليل فى اللا معقول، بصيغة أخرى تتماشى مع الهوى المريض، مفادها أن مصر باعت القضية الفلسطينية، وفرطت فى الأمن القومى المصرى، وأن زيارة الرئيس الأمريكى مكافأة لها على ما فرطت وباعت، فهذه النوعية جاهزة لتوظيف أى حدث للتشويه والتشكيك، مهما كانت حساسية الحدث لخدمة أجندات معلومة سلفًا، حيث لا توجد ثوابت لدى هذه النوعية ولا يوجد أى قدر من الوطنية الصادقة.
وعلى أى حال، إن محاولات التشكيك فى مواقف الدولة المصرية والقيادة السياسية لم تتوقف، ولن تتوقف لأنها الهدف الرئيسى، لكن هناك ثوابت يجب التوقف أمامها والتعامل معها، لعل أبرزها وأهمها، أن مصر دورها محورى وأساسى فى كل الملفات الرئيسية على المستوى الإقليمى، والحديث على أن دورها سيؤول الى أى بلد آخر فهذه أوهام، فمصر تستطيع مجابهة أى ترتيبات لا تتوافق مع مقتضيات أمنها القومى، فالمؤثر الرئيسى فى أى معادلة إقليمية أو دولية، هو أركان القوة المتمثلة فى المقومات التى تكتسب بها أى دولة مكانتها التى تليق بها، وهى المقومات التاريخية والثقافية والقدرات العسكرية، ناهيك عن المقومات الاقتصادية والتكنولوجية، فأى تنظير قائم على الافتراضات الوهمية، والرهان على غياب تأثير أكبر دولة فى المنطقة، مجرد هرتلات وخزعبلات لا أكثر.
إن القراءة الدقيقة لنتائج زيارة الرئيس الأمريكى، كما قلنا وأكدنا فى مقالنا هذا، أنها تصب فى صالح دول الخليج العربية أكثر من ترامب نفسه، فهو اعتاد الصخب دون الرجوع لمؤسسات بلدن، وهنا ندرك أيضًا أنه صخب يشبه تصرفات عبيط القرية، فأرقام الصفقات التى أعلن عنها، وروج لها ترامب فى زيارته، هى أرقام دعائية فى المقام الأول، وليست أرقامًا حقيقية، بما يعنى أنها مجرد مبالغة استعراضية، فالأرقام كفيلة بإفلاس بلدان الخليج، ترليون من السعودية، وترليون و200 مليار من قطر، وتريليون و400 مليار من الامارات، ولأن الأرقام التى أطلقها الكاوبوى الأمريكى، لا تتسق مع أى منطق اقتصادى أو سياسى فى تاريخ العلاقات الدولية والصفقات الاستثمارية، جعلت البيت الأبيض، يخرج عن صمته، ويضطر لتصحيح ما أعلن عنه ترامب فى العاصمة القطرية الدوحة، رغم أن قادة الخليج أنفسهم تجاهلوها ولم يعلقوا عليها، باعتبارها صخب أجوف، للاستعراض بقدراته أمام الشعب الإمريكى، فتركوه للميكروفون، يصول ويجول، بل ويخرج عن أدبيات أحاديث الرؤساء وتصريحات قادة الدول، التى تخضع للبروتوكول وتتسم دائمًا بالكياسة السياسية، فراح يتحدث عن حمايته لهم، وأن ما يحصل عليه مقابل تلك الحماية، وهذا ليس جديدًا عليه، ففى ولايته الأولى راح يستعرض أمام الميكروفون فى الرياض، وقال أن السعودية ستستثمر 500 مليار دولار فى أمريكا، لكن الرقم فى النهاية وقف عند 38 مليار دولار فى صفقات تسليح، ولازالت تلك الاستثمارات فى طور التنفيذ، أى أن الاتفاق على تلك الصفقات يمر بمراحل عدة لمدة زمنية معينة، وفق ما جرى التوقيع عليه، ووفق ما يحدث فى الاتفاقيات أو التعهدات طويلة الأجل، والتى تستغرق سنوات وسنوات.
ان ما سردناه من رؤى ربا تكون مغايرة، وبالقطع هى مغايرة لما يظنه البعض أنه حقائق، لا يقترب منها الشك، والرغبات والأمنيات، لكننا نؤكد على حقائق مصحوبة بمعلومات يمكن البناء عليها، مضمونها يدور فى ان بلدان الخليج فى حاجة ملحة لملاحقة التطور العلمى والتكنولوجى الحادث فى العالم بخطى متسارعة، ومنها جذب الاستثمارات فى مجالات الذكاء الاصطناعى ومشروعات الطاقة النووية للأغراض السلمية، وهذا يحتاج لتعاقدات ومليارات، شأن أى استثمارت فى أى مجال، والعلم هذا يحقق الرغبات الخليجية قبل أن يحقق مكاسب للأمريكان أنفسهم، لذا فإننى أشير إلى أن الهوس وصناعة بروبجندا من العدم، هى آفة شعوبنا، خاصة من يرفعون شعار المعارضة، وهى بالأساس فئات محرضة لصالح الفوضوى، ليس إلا.