أسوأ ما في غرائزنا السياسية، تقديس الخطايا، نبني لها مقامات، نتبرك بها ونطوف حولها، ولا مانع لدينا من إقامة حلقات الذكر، لنتراقص ونتمايل على أنغام كلمات، لا نعرف معانيها، ولا نعي مقاصدها أو مراميها، لكننا نطرب له، وهذه مأساة أزلية، مأساة تلازمنا في كل ما يخص الشأن العام، فبمجرد الحديث عن أمر ما، يتوافد علينا جهابذة من كل صوب وحدب، يطلون على المنصات، يتبارون فى الإفتاء، فيما يعرفون وفيما لا يعرفون، المهم أن بعضنا يتخذ من أقوالهم دستورا، هم ينفخون في النار، ونحن نخطئ، ثم نخطئ، ونساهم في توسيع الفجوة بيننا، ولا ندرك أننا نخطئ، ولا نعي الزلات التي نقع فيها بإرادتنا، فلو حدث جدل حول قضية ما ننقسم، ليس قناعة بآراء طرف دون الآخر، أنما لأسباب لا علاقة لها بالآراء من أساسه، فمنا من يردد كالببغاوات كل ما يوافق هواه، أو هوى الجماعة المارقة، من دون دراية أو معرفة بموضوع الجدل، وهذا ما شاهدته وقرأته على مواقع التواصل الاجتماعي، على خلفية السجال المشتعل حول مشروع قانون الإجراءات الجنائية الجديد بين لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية وفئات وجهات مهمة، فقد صورت السوشيال ميديا الأمر وكأنه حرب قبلية، وبالطبع لم يكن الأمر كذلك بالمرة، لكنه جدل مشروع ويهدف المصلحة الوطنية، وليس الشجار، وإن كان السجال جرى بصوت عال، أو أن التعبيرات كانت قاسية، فالجميع يسعى للمصلحة الوطنية من وجهة نظره، أما انتقاداتنا نحن فتدور في ذات الفلك.
و لكن لأننا لا نتعلم من أخطاءنا، فقد سيطرت على نفوس البعض منا تصورات مرضية، مؤداها احتكار المعرفة، وامتلاك الحقيقة المطلقة، والمدهش فى الأمر، أن الإعلام غير الرسمى كان اهتمامه يفوق الإعلام الرسمى، ما ساهم في تصدير صورة لا تعكس الحقيقة، وهذا جعل التساؤلات تقفز بقوة، وتتدفق بغزارة، حول الطريقة، أو الأسلوب الذي تم التعامل به، مع مشروع القانون، الذي أثار جدلاً واسعاً، وفتح الباب على مصراعيه للتنظير المسؤول وغير المسؤول، وفي كل الأحوال، تصبح التساؤلات مهما كانت حدتها، منطقية، بل مقبولة من الناحيتين الشكلية والجوهرية، فمشروع القانون الذى يستعد مجلس النواب لإقراره فى بداية دورة انعقاده بعد أسابيع قليلة، أوجد انقسامًا في الآراء بين أطياف المجتمع، وفئاته المعنية بالأمر، فهل هذا صحيح أم غير صحيح ؟ ، فكل طرف من الأطراف لديه اعتقاد راسخ، أنه علي صواب، بل و يملك وحده الحقيقة المطلقة، هل هذا صحيح ، أم غير صحيح ؟ و هو ما يستحيل معه التلاقي في مساحة مشتركة، تضع المصلحة الوطنية، دون سواها فوق اي اعتبارات سياسية أو فئوية، فالقوانين تصدر مجردة عن أي أهواء ذاتية، وأي مصالح فئوية، وهدفها الرئيسي ترسيخ القواعد الملزمة للكافة، وتوفير الضمانات لهم علي حد سواء.
وفي تقديري الشخصي
أن ما جري في الآونة الأخيرة، لا يرقي بأي حال من الأحوال، لمستوى النقاش الجاد والموضوعي، كما لا يمكن وصف الجدل الذي طفا على سطح المشهد العام، بأنه ظاهرة صحية، فقد بلغ الشطط حد تجريد البعض من المصداقية، وكان ذلك تلميحاً وتصريحاً، وهذه سقطة سياسية بالغة الخطورة.
لذا فإن الطريقة المُثلي التي تضمن التوافق المجتمعي حول القانون، هي توسيع دائرة الحوار والنقاش الموضوعي، تحت مظلة البرلمان وبرعايته، حتي يصدر بصورة متوازنة، تحقق قدراً مقبولاً من مطالب كل الأطراف المعنية، ومن دون ذلك سنغرق جميعاً في دوامات الجدل السياسي، والمعارك الكلامية التي لا تتوقف.
ولم يخف على أحد أن القانون أثار جدلاّ واسعاً، وتباينت حوله الآراء، ورأت فئات كثيرة أنه يؤثر على عملها، مثل القضاة والنيابة العامة والشرطة والصحفيين والمحامين والمهتمين، وكل مواطن له تعامل مباشر مع كل هذه الأطراف فى أى أمر من مناح الحياة، و قد يصل الخلاف بين البعض حد التقاضي، ثم يجد أى مواطن نفسه فى أقسام الشرطة والنيابة العامة والقضاء، فالمعنى بالأمر قبل أى فئة من تلك الفئات هو المواطن، والاعتراضات، لا بد وأن تكون لصالحه، لذا فإن القضية تتطلب من الجميع حوار ونقاش يُغلب المصلحة الوطنية علي أي دوافع من شأنها حصول أي طرف علي ما يريد، متجاهلاً عن عمد المطالب الأخرى، وكأننا في مبارزة علي حلبة مصارعة، كل طرف يريد تحقيق الفوز على الطرف الآخر بالضربة القاضية.
وفي هذا السياق، يجب التأكيد مرة ومرات على ما أسلفنا، بأن القوانين تصدر لحماية المجتمع من العبث والفوضى، وترسخ لقواعد التعامل بين الأفراد مع بعضهم البعض من ناحية، ومع الفئات المعنية بتطبيقه من ناحية أخرى، بهدف ضمان حقوق الضعفاء من جور الأقوياء، أو من جنوح السلطة، لذا بات من الضرورى، بل من الضرورى جداً، التعامل بهدوء، والسعى الجاد نحو تلاقى الأطراف المعنية فى مساحة مشتركة ، للاتفاق على إصدار القانون بصورة متوازنة ترضى الجميع.
ان أحكام العقل واتباع السياسة الرشيدة، فيما يتعلق بقضايا الشأن العام، تتطلب التأنى، وعدم التسرع في إصدار القانون لأنه يمس الجميع .
أن ما جري لم يكن جدلاً موضوعياً ، أو سجالاً، يتسم بالهدوء والعقلانية لكن ما جرى كان أشبه بالمعارك القبلية، كل طرف يسعى لتحقيق انتصار على حساب الأخر.
الجدل لم يأت من فراغ، ولم يكن انتقاد القانون أو الاعتراض عليه لمجرد الاعتراض فقط، إنما لأنه تضمن مواد تثير مخاوف بعض الفئات، حال اقرارها بصيغتها الحالية، ففي هذه الحالة تصبح المعارضة مشروعة، والمخاوف مشروعة أيضاً، لذا لابد من أن يتعامل الجميع بتجرد، وليس بالانحياز لرأي واحد دون سواه .
واعتباره الصح المطلق وما عداه إنفلات أو شطط .
ان رفض مشروع القانون صدر من فئات معنية بالأمر ويقع عليها عبء التطبيق والتوعية بها وهم نقابتا الصحفيين والمحامين ونادي القضاة الذي أوضح في بيانه مناقشة القانون مع مجلس القضاء الأعلى والنيابة العامة بما يعني أن كل طرف لديه اعتراض على بعض مواد القانون ولديه اسبابه الوجيهة .
وفور إقرار مشروع القانون من لجنة الشؤون التشريعية والدستورية، تمهيداً لعرضه علي المجلس في جلسة عامة، أصدر خالد البلشي نقيب الصحفيين بياناً، أعرب خلاله عن مخاوفه من إقراره، وحذر من التعجل به من دون نقاش واسع، واصفاً القانون بالكارثي، مطالباً بوقف إقراره لحين الاستماع الجاد لكل الأطراف، وعلى الجانب الآخر اعتبرت اللجنة أن البيان يعتمد على مغالطات فجة، وأن اتهامها بالتعجل والعصف بالحقوق والحريات ينحدر إلى حد الزيف المتعمد، وأضافت أنها لن تقف مكتوفة الأيدي أمام ادعاءات مغرضة، حتى لو صدرت من أناس يتسترون خلف جدار حرية الرأي، الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه لجدل واسع، حظى باهتمام إعلامى على المستويين المحلى والإقليمى، فضلاً عن أنه شغل مساحة ليست بالهينة على مواقع التواصل الاجتماعى تجاوزت النقد وامتدت للاتهامات، وهذا بدوره يمثل ظاهرة سلبية، من شأنها ترسيخ ثقافة عدم قبول الرأى الآخر.
لم يتوقف الجدل عند حدود ما جرى وصفه بحرب البيانات بين أللجنة البرلمانية ونقابة الصحفيين، فقد أشعلت استجابة البرلمان لعدد من مطالب المحامين، اعتراضاً من نادى القضاة، الذي أعلن رفضه لبعض التعديلات، واعتبر أنها تخل بنظام الجلسات بالمحاكم، وتغلّ يد القاضي عن فرض النظام داخل الجلسة في حالة الإخلال بنظامها .
وذكر النادي في بيانه أن مجلس القضاء الأعلى والنيابة العامة ووزارة العدل شاركوه الرأي نفسه خلال جلسات المناقشة المتتالية في لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية بمجلس النواب.
ويبدو أن البرلمان مُمثلاً في رئيسه المستشار « حنفي الجبالي» استشعر أن التداعيات ستساهم في اتساع مساحة الجدل، فأصدر بياناً مؤداه أن البرلمان «ما زال يفتح أبوابه لمناقشة أية تعديلات قد يراها البعض ضرورية على مشروع قانون الإجراءات الجنائية الجديد، طالما تهدف إلى إرساء نظام عدالة ناجز، وتسعى لتعزيز الحقوق والحريات العامة .
كما دافع عن القانون، معتبراً أنه يعد خطوة مهمة في تحديث النظام القانوني، ويشمل مجموعة من الضمانات التي تعزز من حقوق الإنسان، منها تقليص مدة الحبس الاحتياطي، وتقييد سلطات مأموري الضبط القضائي في القبض والتفتيش، ووضع ضوابط لتعويض المتهمين عن الحبس الاحتياطي الخاطئ.
كما يتضمن، تنظيماً متكاملاً لحماية الشهود والمبلغين والمتهمين والمجني عليهم، وتقديم تسهيلات لذوي الهمم في مراحل التحقيق والمحاكمة، بالإضافة إلى تنظيم التحول التدريجي للإعلان الرقمي والتحقيق والمحاكمة عن بعد.
ومن المقرر أن تُعرض التعديلات على الجلسة العامة للبرلمان، وإذا جرت الموافقة يتم إرساله بصورته النهائية لرئيس الجمهورية، وإذا حصل القانون على موافقة الرئيس يتم نشره في الجريدة الرسمية.
ولرئيس الجمهورية في حال اعترض على القانون أن يرده إلى مجلس النواب.
في السياق ذاته، لا يمكن إغفال رأي لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية داخل البرلمان، والتى أثار بيانها معركة إعلامية، تفاعلت معها أطياف المجتمع، حيث كان رأيها الذي جرى تداوله على لسان عدد من الأعضاء، ومفاده أن مشروع القانون يتسق تماماً مع أحكام الدستور، ويتسق مع الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، وبالرغم من عدم إغفال هذا الجانب المهم ، والذي يتضمن وضع المعايير الدستورية والمواثيق الدولية، لكن هذا لا يمنع من التأكيد على أن اللجنة تسرعت، وجانبها الصواب فى بيانها، الذي اتسم باللهجة الحادة ضد كل من خالف رؤيتها فى مشروع القانون، نعم هي قامت بتعديل بعض المواد التي لاقت اعتراضات من نقابة المحامين، وقد كانت موفقة في ذلك.
وفي تقديري الشخصي وبحسب البيان الأخير للبرلمان، أن النقاش لن يكون في هذه المرة لمجرد الاستماع فقط، أو رفع شعار «قل ما شئت، ونحن نفعل ما نريد»، بل سيكون حوار موضوعي يهدف إلى التلاقى في مساحة مشتركة، وهذا يتطلب من الأطراف المعنية بالأمر، التوقف عن المثالية المفرطة، لأنها لن تتحقق، والتعامل بواقعية أن يتحلى بالواقعية.
وبعيداً عن الجدل الدائر فمن المنطقي الإقرار بأن اللجنة البرلمانية لها الحق في أن تدافع عن عملها و عن قانونها من دون توجيه انتقادات أو اتهامات لمنتقدي القانون، فهذا لا يصب في صالحها، ولا يجب ان تدخل فى حروب كلامية أو بيانات مع النقابات المهنية والهيئات والمؤسسات، والأطراف والشخصيات المعترضة على مشروع القانون، خاصة أن جوهر الجدل، يدور حول خلاف يتعلق بالشأن العام، وليس خلافاً شخصيا.
بالطبع لم يحالف اللجنة التوفيق، في استخدام بعض التعبيرات القاسية، التي تحمل في طياتها اتهامات موجهة، مثل «الذين اتخذوا من الكذب سبيلا والتضليل منهجا» ، أو عبارات مضمونها لا يتسق مع السجال النخبوي، مثل «ممن لهم نوايا خبيثة وأنهم يحاولون توظيف النقد، لتحقيق مكاسب شخصية أو سياسية»، فضلاً عن التهديد بمقاضاة المخالفين.
نعم قد تكون هناك انتقادات صعبة، خرجت من هنا أو هناك، لكن المفترض أن اللجنة التشريعية والدستورية، وهي لجنة قومية، تعبر عن مصلحة المجتمع، ولسان حاله، ومنوط بها دراسة وتقديم مشروع القانون شديد الأهمية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
فليس من المنطقي أن تكتفى فقط بالقول، أنها استمعت لكل الآراء، فما قيمة الاستماع لكل الآراء، من دون ترجمة حقيقية للتوافق عليها، بل كان عليها، أي اللجنة، أن تضع أمام عينيها، التوافق مع أطراف الجدل، وتتفهم أن النقاش والجدال بل والخلاف والاختلاف بين كل القوى ظاهرة صحية، كما أن النقاش قبل صدور القانون، أفضل كثيراّ من بعد صدوره، حتى لا يتكرر ما حدث مع قانون التصالح فى مخالفات البناء الذى صدر، وعلى خلفية ظهور العيوب به، أصدر مجلس النواب تعديلا له، وتم اكتشاف عدم ملاءمته للواقع، فصدر قانون جديد من نفس المجلس.
في السياق المتعلق بأمر القانون، يجب التأكيد أن الموضوع به تعقيدات ومواد كثيرة، وليس فقط ما يخص الحبس الاحتياطى كما يظن البعض، وفى النهاية، يجب علينا التعامل بقدر من الرؤية والمرونة فى النقاش حول القانون، بما يحقق التوافق لإقرار قانون متوازن .