جريدة صوت الملايين
رئيس مجلس الإدارة
سيد سعيد
نائب رئيس مجلس الإدارة
د. محمد أحمد صالح
رئيس التحرير
محمد طرابية

سيد سعيد يكتب   2022-12-19T15:23:58+02:00

الحكومة ترعى «مولد سيدى الدولار» على حساب المواطن البسيط

سيد سعيد

 لا حديث فى مصر الآن يفوق الحديث عن الأزمة الاقتصادية وتأثيراتها على جيوب المواطن، وفى القلب منها ارتفاع سعر الدولار الأمريكى بصورة جنونية، فالصعود الوهمى له ينطلق بسرعة الصاروخ على مدار الدقيقة، وليس على مدار الساعة أو اليوم، وفى المقابل يتهاوى الجنيه المصرى بشكل عملى، وهو ما تظهره النشرات المتتابعة للبنك المركزى، وصفحات البنوك التجارية وحالة الأسواق المرتبطة بالحياة المعيشية، وما بين الانهيار المتسارع للجنيه، والصعود الوهمى للدولار الأمريكى، بات الأمر كمسرحية هزلية، تنطلق مشاهدها العبثية في الأسواق بصورة مثيرة للاستغراب، فتجار الذهب يحددون سعرًا للدولار، وعلى أساسه يتم البيع والشراء، ومستوردى السيارات، يبيعون بسعر آخر، وتجار العملة يديرون أنشطتهم بتحويلات بنكية من دولة إلى دولة أخرى، لحسابات أفراد بسعر غير المتداول فى البورصة الوهمية، وفى عمق تلك المهزلة، لا يمكن إغفال المخاوف من غد لا أحد يستطيع تحديد ملامحه، فى ظل أحاديث لا تتوقف عن تعويم كامل للعملة المحلية، واستنزاف العملات الأجنبية فى أسواق الذهب، تمهيداً لاخفائها من الأسواق، ثم إعادة ضخها بأسعار لا تخضع لأى معايير سوقية، فضلاً عن الدور النشط لتجار العملة في اجتثاثها من المنبع، عبر الشراء والبيع من المصريين فى العديد من العواصم.  

    يبدو أن مولد سيدى الدولار، سيستمر طويلاً، فالمريدون والدراويش  والمجاذيب،  نصبوا  الخيام وأقاموا حلقات الذكر، وراح المنشدون يعددون معجزاته، ويتغزلون فى قدراته الخارقة، وهلل الجميع للتبرك بمناقبه وبركاته التى لا تحصى، فالكلام عن الدولار لا يتوقف، ولن يتوقف، هو يشغل بال البسطاء قبل أصحاب البيزنس والمليونيرات من المتعاملين معه، لكن هنا لا بد من التوقف، ولو قليلا، ليس بغرض تأما المعانى، التى أقصدها بالطبع، لكن حول البسطاء، بما يعنى الغلابة، أو معدومى الدخل، هؤلاء ما علاقتهم بالدولار، سواء ارتفع أو انهار، وجد أم لم يوجد، فى هذا السياق، لا أدعو أحدا لأن يسخر، لكن هذه هى الحقيقة المرة، أن بائع الخضار يحدثك عن ارتفاع سعر الدولار، الهوس المعد باتقان لإشعال سوق الذهب، ارتفاع سعر قرص الطعمية، بحجة عدم وجود دولار.

    يا سادة.. نعم كل شىء ارتبط بالدولار، لكن هل هناك سلع تم استيرادها فى ظل هوجة الدولار؟ بالطبع لا، لأن الأحاديث المتعالية تطالب بفتح الاستيراد وتوفير العملات لإدخال البضائع إلى الأسواق، وإذا كان الأمر كذلك، لماذا يربطون فوضى الأسعار بارتفاع الدولار فى بورصة تصعد وتهبط بصورة تشبه لعب القمار، ولا تخضع لأى معايير اقتصادية، هذا من ناحية، أما الناحية الأخرى فإن شريحة البسطاء تعجز عن مواجهة الفوضى فى الأسعار، كما عجزت الحكومة عن الرقابة، وتركت الكل يطحن فى الكل، بالمخالفة لتوجيهات القيادة السياسية، التى تريد رفع العبء على المواطن البسيط والحكومة تركته فريسة يستعطف رضا مولانا الدولار.

     فى ظل تلك الأزمة يصبح من البديهى جداً أن يهتم رجال الأعمال وخبراء الاقتصاد والمال، بالبحث عن حلول عملية للتغلب على تفاقم أزمة الدولار، ومن المنطقى والطبيعى أيضاً، أن يناقشون المخاوف المشروعة للأزمة التى تؤثر سلباً على قدرة الجنيه المصرى فى الصمود أمام عملة صارت سلعة رائجة يتصاعد الطلب عليها، ويتم تداولها فى بورصات سرية، أكرر بورصات وليس بورصة سرية، وفى المقابل، من الطبيعى جداً أن تنال سهام الاتهامات من بعض رجال الأعمال أنفسهم، بأنهم من يصنعون الأزمة ليلاً ويذرفون الدموع مع طلوع النهار، فضلا عن النحيب على توقف أنشطتهم وعدم القدرة على الوفاء بالتزاماتهم الاستيرادية، وتعرض ديارهم للخراب المستعجل، بسبب عدم تلبية البنوك تمويل أنشطتهم التجارية، جراء قرارات حكومية، يرى كثيرون أنها تزيد الأزمة تعقيدا، وإن كان هذا جزء حقيقى من الأزمة، ولا يمكن إنكاره بأى حال من الأحوال، وهنا نؤكد أنهم يعانون أشد المعاناة لتدبير العملات، وحال تدبيرها، لا تعتد البنوك إلا بسياسات المركزى والحكومة.  

    لا ينكر أي أحد أن أزمة الدولار، لم تعد من بين الأزمات الطارئة أو العابرة، التى يمكن امتصاصها مهما كانت قسوتها أو تداعياتها الوقتية، لكنها أزمة مزمنة  تطل علينا برأسها مع أى متغيرات سياسية واقتصادية إقليمية أو دولية أو أحداث داخلية، لذلك يجب أن تتعامل معها الحكومات بقدر هائل من الدراسة والتحليل، والبحث الدائم عن حلول مستدامة، لا تفصل السياسات النقدية والحفاظ على قيمة العملة المحلية، بعيداً عن التنمية الشاملة «التصدير والتصنيع  والزراعة، والبحث العلمى»،  وهذا يتطلب نظرة أشمل وأعمق للملفات الاقتصادية، وجرأة على تجاوز الحلول التقليدية، التى قد تكون ضرورية وصحيحة فى كثير من الأحيان لارتباطها المباشر بملفات تتعلق بالحماية الاجتماعية ومواجهة أعباء الزيادة المطردة فى التعداد السكانى، أو الإجراءات الاقتصادية والمالية التى من شأنها حلحلة الأزمة الراهنة، ولكنها جميعا لا تمثل حلولًا تمنع الأزمة.

    رغم عدم قناعتى بالحديث الصاخب الذى يملأ الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعى، عن المؤامرة والحرب الخفية، والتى أرى أنها ليست سوى شماعة جاهزة، يعلق عليها البعض فشل السياسات الحكومية، أو الرغبة فى إعفائها من مسئولية عدم القدرة على الابتكار لمواجهة الأزمات واللجوء للحلول التقليدية التى تزيد الأعباء على الدولة ويدفع ثمنها المواطن، إلا أن هناك جوانب أخرى  يجب التوقف أمامها، ومفادها أن مبتغى المصالح الفردية وجدت تناغما فى سياق فرض توجهاته وفلسفته على الواقع، وهو التوافق مع شبكات محترفة تعبث بالقانون ، وليس لديها أدنى التزام أخلاقى تجاه الدولة ، هؤلاء الأفراد المتباعدون فى رغباتهم هم فى الأصل ليسوا جماعات بالشكل المتعارف عليه، لكنهم فئات غير منظمة،  لكن يصب مضمون ما يمارسونه من أعمال خفية، في أنها تفوق قدرة أى متآمرين  خارجيين إن وجدوا، رغبتى تأكيدى على عدم قناعتى بما يطلقون عليه نظرية المؤامرة، لأنها إذا وجدت، فعلى الأقل يوجد مقابلها ألف فكرة ونظرية ودراسة لوأدها أو إحباطها.

    القراءة الدقيقة والموضوعية لما تحدثه تلك الفئة من تأثيرات على الاقتصاد بالاتجار فى العملة أو تكديسها، أو ربطها بمؤشر وهمى يزيد من تصاعد قيمتها دون تداول ملموس على الأقل لدى المراقبين لأسواق المال، ليس له سوى تفسير واقعى وعنوان يطابق الحقيقة، هؤلاء يلعبون لعبة الصعود إلى الخراب أو صناعة الفوضى،  هذه اللعبة الجهنمية يدور محورها فى تخبئة العملات الأجنبية والمضاربة عليها فى بورصة وهمية، ممن لديهم الرغبة أو هوس كنز الدولارات وحجبها عن التداول فى البنوك والأسواق، هؤلاء بالضبط مثل المقامرين يراهنون دوما على التوقعات وحسب تسعير الدولار من كل فئة من الفئات التى تستخدمه أو سوف تستخدمه مستقبلا، من الناحية الواقعية والعملية، فإن اكتناز الدولار سيؤدى إلى  رفع السعر فعلا  وتحديده بالرقم المزمع بلوغه، حتى لو لم يكن هناك تداول على السعر الجديد فى السوق السوداء، والخطير فى الأمر أن هذا السلوك تحكمه قواعد أخرى، لعل أبرزها، القيود على الاستيراد، وهذا النشاط أهم بل أكبر مستهلك للدولار، وعلى خلفية ذلك كله، سيصبح من الطبيعى حدوث انفلات فى أسعار السلع، ولا يجد المكتنزون الذين لعبوا دور البطولة فى رفع سعر الدولار ومن ثم الأسعار سوى العويل على الارتفاع المتناسب مع سعر الدولار، وعلى هذا الأساس ستتنامى الرغبة فى ممارسة الجشع، وسيحاولون توسيع دائرة حجب الدولار مرة ومرات، لتعويض أنفسهم عن الغلاء، ما يجدد رفع أسعار السلع الضرورية والخدمات مرات ومرات بسبب الرغبات المخالفة للمعايير الأخلاقية، والسعى نحو ترسيخ الفائدة الفردية على حساب الدولة والمجتمع.

    الواقع يؤكد أن مواردنا من الدولار لا تفى باحتياجاتنا الحقيقية، اللازمة لخلق التوازن أو تقليل فجوة الاحتياجات بين التصدير والاستيراد، لكنها فى ذات الوقت ـ وهذه حقيقة تائهة فى زخم الفوضى المصطنعة ـ أن الموارد من النقد الأجنبى أكبر بكثير مما تظهره مؤشرات السوق الوهمية، والتزاماتها، وهذا الواقع الذى أعنيه لا يدخل فى خانة العاطفة أو الرغبة فى تقليل حجم المخاوف، لأنها مخاوف مشروعة وموجودة فى أذهان الكثيرين داخل قطاعات الشعب، خاصة فى ظل عدم ارتياح أو ثقة تجاه قرارات الحكومة أو فى  تصريحاتها، وفى هذا السياق الذى اختلطت فيه الكثير من الأوراق، توجد دعوات لتحرير كامل للدولار ورفع الفائدة وهى دعوات تثير الشكوك.

    ومن هذا المنطلق نريد التأكيد على حزمة من الأمور، وجميعها في غاية الأهمية، ومفاد ما أود سرده، إذا استمر هذا العبث الذى تفرض شروطه دوائر شيطانية محترفة، تحدثنا عنها في بداية مقالنا، فالنتائج ستكون كارثية على الفئات المجتمعية الأكثر احتياجا، فمهما اتسعت مظلة الحماية الاجتماعية، لن تكون كافية لتغطية الاحتياجات الضرورية، فهؤلاء العابثون وللأسف منهم محسوب على النخبة التى تخرج للتنظير والتقعير، لإشباع رغباتها بالحديث وتضليلنا برؤاهم العشوائية، خاصة فيما يتعلق بالتحرير الكامل لسعر الصرف، دون  إخبارنا أو طرح الأفكار الملائمة بغرض التحضير لتداعيات ما تسفر عنه تلك القرارات، هم من يفتحون أبواب الكوارث والتنظير غير القائم على أسس واقعية، ولكن مجرد أطروحات نظرية لا تلائم الواقع وحقائق الأمور فى كثير من الأحيان، بل فى أغلب الأحيان.

    إذا كان من حقنا أن نوجه الانتقادات ونعلن عن الدوافع الحقيقية للمخاوف من العبث، وتراخى الحكومة فى فرض رقابتها وفرض هيبتها على الأوضاع الاقتصادية، فإن لفت نظر الحكومة إلى أن الأسعار التى جعلت الدولار سلعة وليست عملة نقدية، ستتنامى، وتدهس العملة المحلية، لذا فإن هناك دعوة، أرجو أن تكون محل اهتمام من صناع القرار، محورها يدور فى منع نشر أى  توقعات عن سعر الصرف بدون ذكر الحيثيات المصاحبة  والأسباب بصورة علمية وليست عشوائية، تفتح الباب أمام مزيد من العبث والفوضى، سواء جاء التوقع من مراكز بحثية محلية  أو أجنبية، وما يبعث على الارتياح أن الحكومة استمعت مؤخرا لنداءات العقلاء بعدم السير في طريق يسعى لتمهيده الصندوق الدولى، أو بمعنى أكثر وضوعا عدم الانصياع فى تنفيذ روشتته الكارثية لو اقتضى الأمر إلغاء الاتفاق معه، ويبدو أن الأمر تحقق من هذه الناحية، لكن كل ما يؤخذ عليها، هو عدم رغبتها أو تجاهلها فتح حوار مجتمعى حول ما يدور من لقاءات ومناقشات مع المنظمات الدولية، لكى يكون الرأى العام شريكا فاعلا ومهما فى الدفاع عن استراتيجية الدولة، ولو فى الحوارات العابرة.


مقالات مشتركة